السياسة الانتحارية للمؤتمر الوطني
وقعت أمس الأول أحداث جسام في أنحاء السودان المختلفة، منها اجتياح الجيش لأحد معاقل حركات التمرد المسلحة في جنوب كردفان، واضطرابات قديمة متجددة في دارفور، ومؤتمرات قارية في الخرطوم خاطبها مسؤولون كبار. ولكن معظم صحف الخرطوم الصادرة أمس اختارت عنوانها الرئيسي قرار ولاية الخرطوم تخفيض وزن رغيف الخبز بمقدار عشرة غرامات!
وهكذا في يقف نظام الإنقاذ في عامه الخامس والعشرين وهو عاجز عن توفير الخبز للمواطنين، وقد أصبح هم الفرد يتركز في الضروريات. في نفس الوقت، لا يزال الأمن غير متوفر لكثيرين، حتى للنظام نفسه، حيث ما زال يقاتل الانتفاضات المسلحة والسلمية ضده في كل مكان. وهو حصاد غير مشرف بأي مقياس.
من الطبيعي إذن في ظل هذا الأداء المخيب للآمال، أن تتصاعد دعوات الإصلاح من بين أنصار النظام القلقين من تردي الأوضاع ونذر الانهيار. ولكن قيادة المؤتمر الوطني الحاكم اجتمعت الأسبوع الماضي ليس لتدارس مطالب الإصلاح، وإنما لقتل الرسول الذي يحمل الأخبار السيئة. فقد اختارت فصل المنادين بالإصلاح وإسكات أصواتهم. وهذا أشبه بحال شخص يسمع جرس الحريق في منزله، فيطلق النار على الجرس لإسكاته ثم يعود للنوم، بدلاً من أن يتحرى عن النار المشتعلة في البيت. وهي سياسة انتحارية بامتياز.
في نفس اليوم الذي سمع فيه سكان الخرطوم الأنباء السيئة عن الخبز، كان زعيم المؤتمر الوطني نافع علd نافع يتحدث بصفته الأمين العام لما يسمى بمجلس الأحزاب الافريقية في الخرطوم عن استهداف الغرب للدول الافريقية عامة والسودان خاصة، ويرى في تكتل الأحزاب الافريقية واحدة من أدوات النضال ضد الهيمنة الغربية. ولا نريد أن نتوقف هنا عند هذه الدعوى العريضة بدور قيادي في افريقيا (مما يذكرنا بدعاوى القذافي عن كونه ملك ملوك افريقيا)، ولكنا نتساءل: هل هناك حقيقة حزب في السودان يقوده نافع حتى يتصدى لقيادة كل أحزاب افريقيا، إلا كما كان في افريقيا ملوك يسودهم القذافي؟
في نفس اليوم أيضاً كان النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه ورئيس جهاز المخابرات محمد عطا يخاطبان مؤتمراً لقادة مخابرات الدول الافريقية برسالة مماثلة، مفادها أن المسؤول على أزمات السودان وحروبه هي جهات خارجية، تكيل بمكيالين وتؤجج الصراعات في افريقيا لغاياتها الخاصة.
هناك نسق واضح في كل هذه الرسائل التي ترسلها قيادات النظام في الخرطوم، يتمثل في العمى والصمم عن حقائق الأمور، ولوم الآخرين على تقصير النظام. فإذا كان الغرب هو الذي يؤجج الصراعات في السودان، لماذا رحب النظام بمساهمة الدول الغربية في عقد اتفاق نيفاشا؟ ولماذا سافر على عثمان إلى أوسلو مرتين لحضور مؤتمر المانحين وكان في الدوحة ايضاً هذا العام لحضور مؤتمر مانحين لدارفور؟ فهل الغرب هو الذي قتل الأبرياء في دارفور والمتظاهرين في الخرطوم؟ وهل هو الذي أسكت أصوات المصلحين في المؤتمر الوطني؟ ام أن جريمة الغرب هي أنه لا يسكت بما يكفي على جرائم النظام؟
إن هذا السلوك يذكرنا بالرواية القرآنية لصاحب موسى الذي أنقذه موسى ممن تشاجر معه، ولما وجده في شجار للمرة الثانية في اليوم التالي وأراد أن ينقذه اتهم موسى بأنه يسعى لقتله، وفضح سره فعرض حياته للخطر. فقادة النظام السوداني لم يفرغوا من حرب الجنوب إلا واشعلوا حرباً في دارفور ثم الآن في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. وقبل شهر كانوا يفجرون مشاكل في الخرطوم، والآن هم في صراع مع إخوتهم في الحزب ممن يطالبون بالإصلاح لمصلحة الحزب وأعضائه قبل أن يكون لمصلحة الدولة والأمة. أما إذا تقدم من يعينهم على أمرهم يتهمونه بأنه هو المتسبب في المشكلة!
إن الإشكالية هي في هذا النهج العقيم الذي يرفض الاعتراف بالأخطاء والخطايا، ناهيك عن التوبة عنها، ولا يحب الناصحين. وعندما اختار ما يسمى مجلس شورى المؤتمر الوطني الأسبوع الماضي التخلص من الناصحين، أعلن رسمياً أنه كيان تتوقف عضويته على المنافقين وكل شيطان أخرس. فإنه لا يكاد شخص يختلي بأي عضو من المؤتمر الوطني، حتى بين القياديين، إلا ويسمع منه مر الانتقادات لأداء الحزب والنظام. حتى إذا احتشد هؤلاء في جمع، بالغوا في الهتاف والنفاق. إنه حقاً تجمع انتحاري، على الاقل من الناحية الدينية والأخلاقية.
[/JUSTIFY]
د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]