جعفر عباس

حكاية تفقع المرارة وأخرى ترقعها

[JUSTIFY]
حكاية تفقع المرارة وأخرى ترقعها

اسمحوا لي بأن أروي لكم حكاية أحزنتني كثيرا، وربما يتذكر بعضكم بعض تفاصيلها، وحكاية أخرى أنعشتني،.. نبدأ بالنكد، ونختم بالانتعاش كما نفعل مع الطعام: نختتم بما هو حلو.. المكان مسجد النور في حي العباسية في القاهرة، حيث دخل البعض حاملين جثمانا وطلبوا ممن هم داخل المسجد الصلاة عليه،.. وبالطبع اصطف المصلون لأداء صلاة الجنازة، ولكن صوتا هادرا لفت انتباه الجميع: أنا طالب من المتوفى خمستلاف (5000) جنيه، ولا ينبغي دفنه أو حتى الصلاة عليه قبل إبراء ذمته.. وبكل طيبة أهل مصر تناوب المصلون لإقناع الرجل الدائن بإعفاء المتوفى من الدين بإعلان إسقاطه، و«ينوبك ثواب»، ولكنه رفض.. فقالوا له «طب كلياتنا هنا بنتعهد لك إن الفلوس هتكون عندك باكر الصبح على داير المليم.. بس انت دلوقت أعلن تنازلك عن الدين عشان نصلي عليه وأهله يدفنوه لأن إكرام الميت دفنه»…. مفيش فايدة.. انهالت الدموع وارتفع العويل من شابين قالا إنهما ابنا «المرحوم»، «أبونا يقعد فطيس في البيت أو المشرحة عشان الراجل المفتري دا مش عايز يعفيه من الدين وهو ميت؟» ولكن الرجل غليظ القلب تمسك بموقفه: تدفعوا اللي عليه قبل الصلاة والدفن وأنا مش هتنازل عن حقي.. أدرك المصلون أنه لا طائل من وراء «استرحام» شخص كهذا، ولأن الشهامة خصلة أساسية في ابن البلد المصري فقد تدافع الناس داخل المسجد وخارجه للجود بالموجود، وخلال اقل من نصف ساعة كانوا قد جمعوا الخمسة آلاف جنيه وأعطوها لمن طالب بها، وبعدها أدوا صلاة الجنازة.. ثم تلفتوا لتقديم التعازي لأقارب المتوفى، فوقعوا في حيص بيص: فين الجماعة اللي جابم الجثمان.. فين أولاد المرحوم اللي كانوا بيعيطوا من شوية؟ كانوا فص ملح وداب.. وبكل الشهامة أيضا قرر المصلون حمل الجثمان إلى مستشفى ثم إبلاغ الشرطة بالأمر خشية ان يكون المتوفى قد لقي حتفه نتيجة عمل إجرامي.. وتقدم شابان لرفع الجثمان، ولكنه كان ثقيلا، فهب لمساعدتهما اربعة آخرون ولكن الجثمان ظل ثقيلا حتى على ستة رجال.. مش معقول.. ده ابن آدم وللا فيل؟.. تجرأ أحدهم ورفع الغطاء عن «وجه» المتوفى، وفوجئ بأن الجثة بكاملها عبارة عن أكوام من الطوب مرصوصة بعناية ومتماسكة بالرمل والأسمنت.. وأن «الدين»، وحزن نجلي «المرحوم» كان عملية احتيال متقنة من قبل أشخاص حقيرين استخدموا بيت الله، وتلاعبوا بعواطف وكرم خصال عامة المواطنين كي يحصلوا على مبلغ تافه تفاهتهم.
والآن إلى الحكاية التي أسعدتني: ميلينا سالزار سيدة رقيقة الحال تعمل نادلة في مطعم صغير في مدينة في ولاية تكساس الامريكية، وكان من زبائن المطعم عجوز اقترب من سن الـ90 اسمه والتر سوردس، ورغم أنه كعادة من هم في سنه كان غلباويا وكثير الشكوى بسبب وبدون سبب، إلا أن ملينا كانت دائما على استعداد لتقديم أفضل الخدمات، له والاعتذار حتى عن التقصير (الوهمي)، وظل الرجل زبونا للمطعم لسنوات وملينا تخصه باهتمام خاص.. ثم انقطع الرجل عن المطعم.. وذات يوم دخل على ملينا رجل في منتصف العمر وقدم لها مستندات: والتر سوردس توفي وترك لك 50 ألف دولار نقدا وسيارة بويك.. هنا تذكرت الحديث الشريف عن ان البسمة والكلمة الطيبة صدقة.. ومن يفعل الخير لا يعدم جوازيه.. والخير قد يكون كلمة أو بسمة (ألا تذكرك الحكايتان بمقولة: ذهبت إلى أوروبا فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين وعدت إلى بلادي فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما؟).
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]