عبد الجليل سليمان

سينما سودانية (قشة قشة)

[JUSTIFY]
سينما سودانية (قشة قشة)

لن أدعي بهتاناً وزوراً إن قلت إن بمقدوري مع آخرين أن نبتدر مشروعاً نؤسس له (قشة قشة) لسينما سودانية قرناء وذات شوكة، فقد سبق وأن كتبت (قصصاً) تقرأ (سيناريوهات) لمن يريد ذلك، لصالح شركة ليالي، معتمداً على بحوث الصديق المبدع محمد أحمد شبشة وأفكار ولمسات وإضافات الصديق محمد الأسباط، لكن الأمر لم يمض كثيراً وانهار، كما جرت العادة هنا في هذا البلد الأمين.
أول أمس، شهدت فيلمين رائعين للمخرج الفرانكو جزائري مالك بن اسماعيل، عبر نافذة بي بي سي السينمائية الموسومة بسينما بديلة (Alternative Cinema)، أحدهما بعنوان الأرض (trottoir)، وهو توثيقي يشرح الحالة السياسية الجزائرية في مستويين زمنيين متصلين (الاستعمار وما بعد التحرير)، و(كبسل) بن اسماعيل كل ذلك في (نصف ساعة) فقط، مبتدراً توثيقة بعينٍ اختارت أن تضع مقطعاً تلفزيونياً لمشهد اغتيال محمد بوضياف (يونيو 1992م)، ثم توالت الأحداث عاصفة (كما يقولون).
نجح بن اسماعيل في صناعة فليم رائع، فليم مدعوم بالوثائق والصورة التلفزيونية والتسجيلات الصوتية لكباراللاعبين السياسيين والعسكريين في الجزائر، وثق لحقبة بن بيلا، وانقلاب هواري بومدين ثم فترة سيطرة الجبهة الإسلامية للإنقاذ بقياد عباسي مدني وعلي بلحاج على البلديات عبر انتخابات ديمقراطية، وما تلاها من انقلاب الجيش عليها، ثم كل الجحيم الجزائري المعروف.
الفيلم الثاني بعنون (ديمقراطيا)، ومدته حوالى عشرين دقيقة، وهو فليم درامي تجريبي، تمضي أحداثه في الاتجاه المعاكس لعنوانه، إذ يوثق لحياة دكتاتور ما، في بلد ما، تكون نهايته برصاص فصيل الإعدام المكون من أقرب معاونيه.
في المقابل، يزخر السودان بأحداث تاريخية وراهنة مثيرة للجدل، ابتداء بحروب المهدية، وحرب الجنوب وانفصاله، وحرب دارفور، وجدلية العسكرتريا والديمقراطية، وما نجم عن كل ذلك من كوارث وأحداث وحالات انسانية قلّ نظيرها في العالمين، رغم كل هذا (الثراء) لا أحد هنا يقتفي أثر وفعل بن اسماعيل، الجميع ينظرون، وعندما يدق ناقوس العمل يخورون وينهار كل شيء.
صحيح أن السينما البديلة، قليلة تكاليف الانتاج، متوفرة المواد الخام، لكنها تحتاج شأنها شأن كل ضروب الإبداع إلى خيال ذكي وفعّال، فلماذا لا تتبنى مؤسسات المجتمع المدني المهتمة بالشأن الثقافي والإبداعي بما فيها الأحزاب السياسية (دون فرض وجهة نظرها) باستدعاء كتاب ومخرجين لتدشين سينما سودانية بديلة، تبدأ بالوثائقيات وتمضي نحو الدرامية الطويلة (قشة قشة).
الفيلم الأول: امرأة مُعاقة تحمل طفلاً هزيلاً يبدو كهيكل، تقف أمام باب المستشفى، تكاد عينا الطفل تخرجان من محجريهما، المرأة مغمضة العينين تتمتم بكلمات مبهمة، العابرون يدخلون أيديهم في جيوبهم ويدسون في كفها الممدودة بعض النقود، وفي الجانب الآخر من الصورة شاب يثبت سماعتي الموبايل على أذنيه يستمع دونما اكتراث لحديث وزير المالية عن رفع الدعم، يدخل يده في جيبه، يبحث عن قطعة نقدية، لا يجدها، فيقذف الموبايل على حائط المستشفى، ويمضي إلى سبيله وهو مهشم الوجدان.

[/JUSTIFY]

الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي