رأي ومقالات

الدكتور نائِل اليعقوبابي : أرقين


[JUSTIFY]*(وقوامها بالياسمين موشحاً
والمسكرانَ.. فثغرها ورضابها
وندى أفاق على الصباح، فسرّه
أن الصباح سريره أهدابها
فأتح لقلبك أن يكون قميصها
تعرّى، فيسترها كما جلبابها
– الحصني-
.. لا أعرف اسمها، ومن أية سماء هبطت، وأية فراديس نبتت؟..
لكني سميتها (أرقين). اسم نوبي لعروس الشمال السوداني (حلفا).
في القطار الراكض نحو شطآن (حلفا) كانت (أرقين) تتهادى قبالتي ببنطالها الأزرق، وشعرها المتمرد الذي تحجب خصلاته المبعثرة ملامح وجهها الطفولي الجميل. اشتهيت حينها العمى، وتمنيت لو لم أكُ بصيراً، وأنقذ مقلتاي من خربشات قسماتها العذبة التي باتت تلاحقني في الدروب والطرقات، بين جذوع غابات (كريمة وبساتين وداي دبروسة) وكثبان رمال أهرامات البجراوية وآثار بوهين، أو على ضفاف شلالات أبو حمد.
من أي صخب أتت أيتها الصعبة الجميلة؟، وأية فكرة مجنونة ساقها القدر لي هذا الصباح؟.. أيها النبع الجبلي العذب، غزال الحب أنت، أم غزال الموت؟..
(أرقين)، أيتها الثائرة الجميلة المتمردة أسألك بحق السماء، من أي معبد نوبي تمخضت طقوسه هذا البهاء. قديماً يا (أرقين) كانت جدتي تقص لي في حكاياتها الخرافية عن فتى جميل اسمه (الشاطر حسن) وأن القمر يبزغ له مرة في ضوء النهار. كنت أضحك لسذاجتها وخرفها. جدتي المسكينة لا تدري أن حزمة أقمار فضية هطلت غفلة هذا الصباح ورشت الكون بطلاء طبشوري جميل.
لقد كنتِ والله على حق يا جدتي، ويقيناً أنك تسخرين الآن مني وأنتِ راقدة بأمان في عزلتك الأبدية.
القطار يخب، وأفراس (أرقين) تحفر في عيني دروباً لا حصر لها. سنابكها تفجر في مقلتيّ ينابيعاً من اللوز والفستق والتفاح.
في (أرقين) عرفت الطريق إلى مناجم الساحرات، ومعابد الضوء وقارئات الكف والودع وتكايا شيوخ الوله الصوفي.
حكيت لنفسي دهراً على فراش النوم عن عاصفة الصمت التي كانت تغازل الغيم والمطر. حكيت لها عن الفرس البرية التي اغتالتني عند باب الفجر كي أتعلم منها متعة القراءة وأنا ذاك التلميذ الوقح.
حتى هذه اللحظة ما زلت حياً، برغم ما يقال عني أني رحلت، حيث الحقيقة محض وهم أو سراب. ربما أحلم، وأشعر بالخوف من (حضارة كرمة وكهوف البركل وسركمتو)، لكني مطمئن إلى موتي الثاني بعد مغيب (أرقين).
تمنيت وقتها لو أنني مشيت لصق خطاها، لكن ماذا ستقول عني العرافات وينعتني رواد الأضرحة والمساجد؟..
هنا لا أحد يقرأ الشعر، لذلك أنا حر في قول ما أشاء، فالحلم والعشق صار مهنتي، أخبئه في زحمة الوجوه وراء سترتي المغلقة.
تمنيت أن أقتفي آثارها في خبايا الزمن، لكنني الآن أعمى ضل الطريق، وفشل في استجداء المديح.
بعد هذه الحكاية، أرى نفسي مثل خشبة ملصوقة بالمسامير، لا أستطيع رفع رأسي عن (أرقين)، فهناك بقايا من دم تتسرب من أنفي، رغم أنني كنت أحلم بالنجاة من هذه القصيدة الجميلة.
أنا مريض ومتعب، مسكين وشجاع، لكني عاشق ومذعور. أفر من نفسي حيناً، ومن الكلمات حيناً آخر، وأنا المدمن المحشور في خلوتي، لكني سقطت في أول الطريق ولم يبق في ذاكرتي، سوى صخب الشواطئ، ونشيج لجج البحر.
لم تجدي ألاعيبي الحلوة معها نفعاً في قتل الزمان والقطار يقضم بنا المسافات تلو المسافات ليجعل المستحيل يرحل رغماً عني، دون سيطرة أو تحكم في مصيري.
ضحكت كثيراً على عقلي المتعب، وبراري أفكاري المجدبة وصبّارها الذي لم تصله أسنان جمل.
انعطف القطار وعبر جسراً شاهقاً، ثم غاب في عتمة غبار كثيف، بعدها بانت هضاب وأودية تبسمت سفوحها وشفاهها بخضرة داكنة.
الآن أيقنت أن كل شيء ضاع لا صوت ولا حنجرة ولا أصابع تلعب على ناي مجهول.
لا ادري، سنوات مرت ليس من صراخ ولا همهمة. كيف يحق لرجل مثلي الرحيل والهجرة بين الشموس والأقمار.
لكني امتلك حقيبة وجواز سفر وفرشاة أسنان ولوثة في عقلي، هي أجمل ما صنعته لي (أرقين).
خيل لي أني أسمع صوتاً آتياً من بعيد:
(لا تلتفت أبداً إلى الوراء، المهم أنك حتى ما زلت بألف خير).
– لكنني قد أخسر نفسي، وأفقد الحب والإبداع.
(يقيناً إن المبدع، هو المسؤول الأول عن الروح التائهة التي لا تهدأ ولا تستكين، وعن زرقة النيل وتحريك الجبال وحماقة الأحداق وشهيق الرعد وانثيال الشلالات).
راحت (أرقين) تعيد براحتيها ترتيب خصلات شعرها المبعثرة. شعرت حينها أنها تعرفني، وإن ابتساماتها لي تلج في صدري كنصل السيف.
أحببت فيها كل ما تمنيت أن أحققه في حياتي، لكن الذي أوجعني أنني لم أحقق شيئاً، كبرت هنا بسرعة البرق، تعلمت منها أن الحب يمكنه أن يبقى حتى وإن غابت ملامحها عني إلى الأبد، لكني مظلوم، والظلم يأتي بالكثير من اللذة المؤقتة، تمنيت حينها أن يكون لي أكثر من وطن واحد أسكن فيه وألجا إليه وقت المحن والشدائد. أيقنت أن القدر محض مكان ما، في زمن ما.
حين انتهى العالم عن محطة (حلفا)، وتفرق المسافرون، كانت (أرقين) تحث خطاها وسط الزحام وهي تتألق ببنطالها الأزرق وقميصها الوردي، مثل فراشة برية ضلت أزهار الحقول.
أسأل نفسي: (هل تراني أقول كلاماً يشبه الغزل وأنا مفعم بالفحولة والقوة والفروسية؟).
كنت يومها أمشي صوب حالة من اليأس واللا جدوى والإحباط.
عن شطآن (بحيرة النوبة) وقفت والنيل يتنفس قبالتي، والزبد يلثم قدماي المتعبتين.
هناك صرخت ملء فمي:
– بكم تبيع أمواجك يا نيل؟…
لكن مزنة هطلت فجأة، وحدها هي التي رسمت لي أنشودة سماوية، معها غنت (أرقين)، ثم غابت الأشياء عني في لجج الأزرق الصامت.
بقيت متكوراً كطفل قضى الليل خائفاً، يضم بين جنبيه قلباً يحتضن أمنية طبشورية بعيدة تدعى (أرقين)…

بقلم: الدكتور نائِل اليعقوبابي
[email]yagobabi@hotmail.com[/email] [/JUSTIFY]