جدي الارستقراطي (1)
كان أبي رحمه الله يتقبل مداعبات ومناكفات عياله بروح طيبة، ولكنه مثل أبناء جيله كان صارما في الأشياء المتعلقة بالسلوك والآداب العامة.. لم يضربني طوال حياته سوى مرة واحدة وكانت ضربة واحدة.. لم يكن بحاجة إلى استخدام يده لتأديبنا لأن صرخة أو نظرة واحدة منه كانت كفيلة بإصابتنا بهلاويس لأسبوع كامل.. كنت أقوم بانسحاب تكتيكي من أمامه إذا رأيت شاربه يهتز، فقد كان اهتزازه دليل انفجار بركاني وشيك غير محمود العواقب.. وفي الوقت نفسه لم يكن يسمح لنوبات غضبه ان تمتد لأكثر من دقائق معدودة، وبالتالي فإذا «زوغت» منه في لحظة غضبه فإنك تفلت من أي نوع من المساءلة، ولأن الزوغان لا يجوز في كل الأحوال فقد كنا نتفادى إغضابه ونيل رضاه حتى ونحن في أعمار الشقاوة والعفرتة الصبيانية. ذات مرة استجمعت شجاعتي وسألته لماذا لم يعمل بالزراعة مثل بقية أهل بلدتنا (بدين) في شمال السودان، ولماذا هاجر مع إخوته (أعمامي) إلى مدن السودان الكبرى للعمل؟ وأدرك والدي ان سؤالي «خبيث»، فأجاب: مش شغلك.. هذا أمر لا يخصك.. فطرحت السؤال بصيغة أخرى: لماذا لم يترك لنا أبوك (أي جدي) سوى قطعة أرض غير صالحة للزراعة في جزيرة نيلية كل سنتيمتر فيها يتمتع بالخصوبة (ما عدا أرضه).. ضحك وسألني: طالما انك تعرف ان والدي الذي هو جدك لم يترك أرضا صالحة للزراعة فكيف تتوقع مني وإخوتي ان نعمل بالزراعة؟ هنا سألته: طيب ما الذي جعل جدي يشتري أرضا بائسة مشبعة بالأملاح ولا تصلح حتى مقبرة للنفايات النووية؟! ابتسم والدي ابتسامة عريضة وقال: جدك هذا كان ارستقراطي المزاج ويحب اقتناء الأشياء الجميلة وكانت لديه أراض شاسعة المساحة وعالية الخصوبة، ولكنه باع أو بالأحرى قايض معظمها بحمير! صحت: بلاش هزار.. ولكنه لم يكن يهزر (يهذر) بل واصل الحديث: كان أبي مغرما بالحمير، وكلما رأى حمارا عالي اللياقة البدنية ورشيق الحركة سعى لامتلاكه، ولعدم توافر سيولة نقدية في ذلك الزمان كان يعطي أصحاب الحمير التي يشتريها مساحات متفق عليها من الأراضي، فلم تبق من أراضيه سوى القطعة التي لا تصلح للزارعة ولم يكن الناس أغبياء حتى يعطوه حميرهم مقابل قطعة أرض جرداء تعاني الجرب والجدب المزمن. وبمرور الزمن عرفت أشياء كثيرة عن جدي، وصرت فخورا بكونه كان يملك اسطولا من الحمير ذات الدفع الرباعي، وبكونه توفي تاركا لورثته 12 حمارا من الجنسين.. ففي بلدتنا الزراعية كان امتلاك حمار يعادل امتلاك جرار في هذا الزمان، وكانت هناك حمير في منتهى القيافة والأناقة لا تستخدم إلا كأدوات مواصلات من قبل الشبعانين أي الأغنياء.. يعني قل بي إم دبليو بمقاييس العصر الراهن، وكان جدي يتولى بنفسه قص شعر كل حمار بطريقة هندسية فيكون الشعر كثيفا في موقع السرج ومتدرجا في منطقة الذيل، وبين بين في أجزاء أخرى من البطن والظهر.. ولم يحافظ أبي وأعمامي على الثروة الحميرية التي تركها جدي بل باعوا الحمير واستخدموا عائد البيع للسفر جنوبا إلى الخرطوم ووسط السودان أو شمالا إلى مصر.. لم يكن جدي «استعراضيا ومتعنطزا» ولا غبيا، ولكنه كان من جيل لا يشيل هم الغد لأن الأمور كانت مستقرة. لم يكن هناك من يموت جوعا أو بالتخمة.. مستويات المعيشة متقاربة وليس ثمة هلع وجزع عن «تدني الرصيد المصرفي وهبوط الاسهم وتذبذب سعر الدولار.. عاش جيله مستمتعا براحة البال التي لم نعد نحن نعرف لها طعما أو معنى.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]