وداعاً.. سيِّدْ الممنوعين
وأول أمس، ذهب الذي كان يحيا كأن الحياة أبد، رحل الشاعر الشعبي المهول أحمد فؤاد نجم، صعد وهو في أوج احتفائه بالناس والأرض، و(نجم) ليس شاعراً عادياً بل مناضلاً قوي الشكيمة مثقف اللسان، مصادم من طراز فريد، يحب الحياة ويلعن من يصادرونها، ويهاجم بضراوة ودون هوادة تلك النُظم السياسية التي تأخذ شيئاً إلى حلقتها الضيقة، لذلك كله ظل ممنوعاً وأسيراً ومطارداً وفقيراً ومريضاً، لكنه قاوم كل هذا التجريف الفظيع بإرادة صلبة وشراسة لا نظير لها، فبلغ من العمر نيف وثمانين لم يغير (جبته البلدية)، ولم يربط عنقه بكرافتة حمراء، كان شعباً كاملاً في جسد نحيل وأفكار عظيمة. أكثر من ثمانين سنة، تنقل فيها نجم بين مهن كثيرة، (مكوجي، لاعب كرة، بائع، طلبة، بناء، ترزي)، لكنه لم يغادر مهنته الحقيقية التي أحبها، إذ ظل يلعب دور المحرض العظيم إلى أن غادر منتصب القامة ومرفوع الهامة.
ونجم من طينة أؤلئك المبدعين الذين علموا أنفسهم بأنفسهم، ودأبوا على القراءة والاطلاع بحب وشغف كبيرين دون أن ينظروا إلى عائد مادي محتمل (وظيفة)، ومثل هؤلاء عادة ما يصطدمون بالسلطة القاهرة، لا يخشونها ولا يركعون لها.
ويعتبر نجم رواية الأم لمكسيم غوركي أهم ما قرأ، إذ مثلت بداية وعيه بحقائق هذا العالم وقسوته ومرارته.
شكل الراحل (نجم) مع صنو روحه الشيخ إمام ثنائياً فذاً، هذا بالقصيد وذاك بالغناء، فأحدثا تأثيراً لا نظير له في طبقات الطلاب والفلاحين قبل أن يخترقا طبقة الأفندية (الانتهازية) ويكسران شكوتها المنغرزة في جسد السلطة.
بطريقته البسيطة والمحببة التي تُعبر عن الجماهير، تمكن نجم من ملامسة وجدان كل المقهورين والفقراء و(الناس العاديين)، ومثل خطراً ومهدداً للسلطات المستبدة القائمة في كل أركان (الدنيا)، فعل كل ذلك من داخل حجرة صغيرة ومتواضعة في حارة حوش قدم الشعبية البائسة، ومن تلك الحجرة أرسل على رؤوس الطبقات المستبدة والأرستقراطية و(الحرامية) حجارة من لظى، أشعار مقفاة بسقر، فأطار قلوبهم وأرجف فرائصهم.
ومن تلك الأشعار ننتقي ما يلي: (هما مين واحنا مين، هما الأمرا والسلاطين/ هما المال والحكم معاهم واحنا الفقرا المحكومين/ حزر فزر شغل مخك شوف مين فينا بيحكم مين/ احنا مين وهما مين/ احنا الفعلا البنايين، احنا السنة واحنا الفرض احنا الناس بالطول والعرض/ من عافيتنا تقوم الارض وعرقنا يخضر بساتين/ حزر فزر شغل مخك شوف مين فينا/ بيخدم مين/ هما مين واحنا مين هما الأمرا والسلاطين/ هما الفيللا والعربية والنساوين المتنقية/ حيوانات استهلاكية شغلتهم حشو المصارين.
لن يخبو نجمك أيها (النجم)، فلا زلت تنير طريق السالكين إلى الحرية ولقمة العيش النظيفة ودولة العدل الشريفة، ولا زال صوتك يسري في شرايين الفقراء والمساكين والطبقات المقهورة، فنم هانئاً راضياً وسيداً للممنوعين.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي