شعب “ما شاء الله” أم “لكين”..؟
هذا الحرف (لكن) هو الشقيق الأصغر لـ (إن) وأخواتها، بيد أنه يكتسب رواجا كبيرا في حياتنا اليومية، هذا الحرف اللعين، (حرف) الاستدراك والنصب والنسف وتحقير الأشياء، أخذ يشيع وينتشر استخدامه مؤخرا في سلوكنا العام وتقييمنا للأشياء وتعليقنا على ما يقوم به الآخرون حتى جعلنا نبتدع له تصريفات لغوية نكافحه بها ونخفف من وطأته بها.. مثل أن يقول لك أحدهم: هذا الأمر جيد.. فتقول له في الرد والتعليق: (والله هو كويس لكين) فيكون تعليقه الصامت: (يعني لازم تلكننها)..؟!
صحيح أن (الاستدراك) والنقد يمكن أن يكونا بغرض تجويد إنتاج الواقع وترفيع قدرات وإمكانيات الناس؛ أما في حالتنا فإن استخدامه في الكثير من الأحيان يكون استخداما محبطا ومخذلا ومثبطا للهمم.. بل قد يوصف بأنه استخدام نرجسي مضر يصدر عن نفسية غير متوازنة ولا يريد أن يعترف بالأشياء كلها ولا يعطي الآخرين حقهم..
وبالتالي، فإننا صرنا نستمع كثيرا في الفترة الأخيرة لنوع من النقد الذاتي المقدم من السودانيين لأنفسهم، يتطرف أصحابه أحيانا ويخرجون عن أطوارهم ويصفوننا جميعا كسودانيين بأن فينا شيئا من الحسد، ونحن نقول: حاشا وكلا فهذه الصفة لا تناسب ولا تليق بأهل السودان الكرماء الأعزاء.. ولكن وبعد أن نكمل قولنا ودفاعنا عن أنفسنا، كسودانيين نعرف عزنا وكرمنا وتميز شخصيتنا بين الجنسيات الأخرى.. نعود أيضا ونفكر بعمق أكثر في هذا الكلام الذي صرنا نسمعه كثيرا يتردد في مجالسنا العامة.. نردده ونهمس به.
قبل أسبوع تقريبا كنت مع صديق سوداني رائع وفنان هنا في المنامة، أقام جلسة عود أنيقة بمنزله جمعت بعض الأصدقاء من صحفيين وقانونيين، كنت متشرفا بوجودي بينهم. وحين كان الحديث حول الأطعمة السودانية والخبز السوداني الذي نفتقده ولا نجد بديلا يشابهه طعما ومذاقا، طرح أحدهم سؤالا: لماذا تتوفر مطاعم المصريين والهنود والسوريين في مناطق الغربة وتقل مطاعم السودانيين.. خاصة في العواصم التي تقل فيها نسبة السودانيين كجالية قياسا بالجاليات الأخرى مثل مملكة البحرين التي لا يتجاوز عدد السودانيين فيها الستة آلاف؟
فكان رد أحدهم من المهاجرين القدامى أن المصريين، مثلا، يحتفون ويدعمون نجاح مشروعات تعزز اسمهم وتقرب عليهم المسافة النفسية بينهم وبين وطنهم ويباركون خطوة من يفتح منهم مطعما أو مقهى مصريا، مثلا، في مدن الاغتراب؛ فتجدهم يحرصون على إنجاحه بانتظام حضورهم كزبائن معتمدين، أما نحن ـ السودانيين ـ فبعضنا سيهتم بـ (الزول دا هسه بدخل كم..؟!)، وأرباحه، وربما (حسادة ساي)، وأقول “بعضنا” حتى لا يكون حديثي مسيئا، فما أعز عليّ من أهلي ووطني.
ولكن انتشار هذا المزاج السلبي في سلوكنا العام أمر مخيف جدا ويجب مواجهته بالوعي والنقد والتنبيه..
نحن أهل حضارة وتأريخ ولا نرضى بأن تنال مثل هذه المسالب من صرح عزتنا وكرامتنا..
نحن شعب ثقافته الأصيلة أنك حين تتحدث عن شيء جميل تعطيه حقه من الوصف ثم تختم حديثك بعبارة (ما شاء الله)، فمن أين وكيف تسللت أمراض (العين الحارة) لتلتصق على أطراف ثيابنا الثقافية الكريمة؟..
نحن يا سادتي كنا ويجب أن نكون شعب (ما شاء الله) وليس شعب (لكين).
جنة الشوك – صحيفة اليوم التالي