عبد الجليل سليمان

مانديلا.. “نور كبير خبا”

[JUSTIFY]
مانديلا.. “نور كبير خبا”

أول أمس الخميس، كان يوماً مشوشاً بذلك (التشويش) الذي يشي بأن شيئاً ما سيحدث، وأن الأفق سيصبح فصيحاً ومفتوحاً، وهذا ما جاء في البيان الحزين المختزل الذي أعلن عبره في (ساعة متأخرة) رئيس جنوب أفريقيا (جاكوب زوما) رحيل الرئيس مانديلا 95 سنة بمنزله في جوهانسبرغ، داعياً إلى احترام إرثه وقيمته. وقال زوما إنه (رغم أننا كنا نعلم بأن هذا اليوم سيأتي، فإن شيئاً لا يستطيع أن يخفف الإحساس بالخسارة العميقة).
يا الله، بينما لا شيء يخفف عن الأفريقيين الجنوبيين وأحرار العالم كله مرارة رحيل مانديلا، تتمنى شعوب كثيرة أن يأتي يوم لا يبقى ولا يذر أحداً من قادتها وزعمائها، فمانديلا المولود في 18 يوليو 1918 في ترانسكي بجنوب أفريقيا، لا تحتاج سيرته إلى إعادة إنتاج، فهي شائعة بين كل شعوب الأرض وشجرها وحجرها ومائها، لكن بعض الاستذكار بغرض التدبر والاستبصار مطلوب وضروروي خاصة في حالتنا السودانية الماثلة.
ومما ينبغي العض عليه بالنواجذ في سيرة الزعيم الراحل، أنه ورغم تعرضه للسجن ما يقارب الثلاثة عقود، ورغم مناهضته الدؤوبة والشاقة لأسوأ نظام فصل عنصري شهدته البشرية، لكنه ما أن انتخب كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا، حتى اقترح أمراً جعل العالم ينظر إليه كقديس سماوي وليس مناضلاً أرضياً جسوراً وشجاعاً، اقترح مانديلا ما عرف بمفوضية الحقيقة والمصالحة (Truth & Reconciliation Commission) بين السود والبيض، بين المضطهدين ومضطهديهم، وهي ليست مفوضية بيروقراطية كمفوضياتنا، بل جلسات علنية يواجه فيها الضحية من استبد به ويتم التحقق فيها من أقوال الشهود.
جلسات مشحونة ومفعمة بالانفعالات والمشاعر الانسانية عمت جميع مدن وأرياف جنوب أفريقيا؛ زهاء (18) شهراً ظل مئات الناس يحكون حكايات تنفطر لها القلوب، حكايات التعذيب وسوء المعاملة اللذين مارستهما الشرطة والموظفون الآخرون في دولة التفرقة العنصرية. وفي الوقت نفسه، كان يؤتى بمرتكبيها ليدلوا باعترافات علنية ويطلبون العفو من الملاحقة المدنية والجنائية.
هكذا نجح الزعيم في غسل أدران النفوس والقلوب، وكان له أن يبقى في السلطة ما شاء وعبر انتخابات نزيهة، لكن آثر مستقبل بلده على رغباته الشخصية، ورجح المصلحة العامة على الخاصة، فترجل عن السلطة قبل أن يترجل عن الحياة.
ليس بمقدور الكلمات العميقة والحزينة والشجية في إيفائه حقه كاملاً، كلمات وعبارات لم يحظ بها زعيم من قبله، فاستمعوا، يقول بان كي مون: “إن مانديلا كان مصدر إلهام للعالم”، ويردف أوباما: “لقد ظل مانديلا شجاعا طيبا وقوي الإرادة ضحَّى بحريته من أجل حرية الآخرين والسلام والمصالحة”، ووصفه هولاند بأنه “مقاوم استثنائي ومقاتل رائع”، فيما اعتبر كاميرون أنه برجيل مانديلا فإن نوراً كبيراً خبا، أما رئيس الوزراء الأسترالي، توني أبوت، فقال: إن مانديلا زعيم أخلاقي وليس زعيماً سياسياً فقط، لكن عبارة ديسموند توتو أحد المناضلين ضد نظام الفصل العنصري كانت مسك الكلمات إذ قال “علمنا كيف نعيش معا ونؤمن بأنفسنا”.

[/JUSTIFY]

الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي