تحقيقات وتقارير
تجديد العقوبات الأمريكية ..المطلوبات الكبيرة بحاجة للتحقق
ثلاثة محاور تاريخية للعقوبات الأمريكية
وقرار العقوبات الأمريكية على السودان صدر في اليوم الثالث من نوفمبر في العام (1997) حيث تم بقرار تنفيذي رقم (13067) صادر من الرئيس الأمريكي الأسبق “بيل كلنتون”، بموجب القانون الأمريكي للطوارئ الاقتصادية تم بموجبه تجميد الأصول المالية السودانية، ومن ثم حصاراً اقتصادياً يلزم الشركات الأمريكية بعدم الاستثمار والتعاون الاقتصادي مع السودان، ثم جاء الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش” (الابن) فأصدر قراراً تنفيذياً آخر رقم(13400) في (27) أبريل (2006) ليزيد استدامة وتعقيد وتشديد العقوبات على السودان. وفي نهاية مايو(2007) وسّع الرئيس الأمريكي الحظر ليشمل شركاتٍ وأشخاصاً لم يكونوا مشمولين بالقرارات السابقة.
وقد فرضت هذه العقوبات على السودان وفق المعلن من الإدارة الأمريكية ثلاثة محاور، قضية المنظمات الإنسانية وحريتها في ممارسة عملها وفي دخولها وخروجها من السودان، وتطبيق اتفاقية السلام الشامل بأكملها، ثم إيجاد سلام شامل ودائم في دارفور.
الخارجية: الاتهام لا يستند على حيثيات موضوعية
وشبّه وكيل وزارة الخارجية “عبد الله الأزرق” في حديثه للصحيفة أمس (السبت) تعليقاً على قرار تجديد العقوبات الأمريكية، الإدارة الأمريكية لملف علاقاتها الخارجية بالعملاق عظيم العضلات صغير العقل وذلك بالنظر إلى أخطائها المخجلة على حد تعبيره في كل من (هيروشما، نجازاكي، فيتنام، أفغانستان والعراق). وسخر “الأزرق” في حديثه لـ(المجهر) أمس (السبت) من اتهام إدارة “أوباما” للسودان بأنه يشكل تهديداً غير عادي للأمن القومي الأمريكي. وقال: (هذا الاتهام لا يستند على حيثيات موضوعية أو منطقية)، مشيراً إلى أن السودان يعلم أن الحكومة الأمريكية أسيرة لضغوط (اللوبيات) التي لديها أجندة تنطلق من الهيمنة والسيطرة. ولفت الوكيل إلى أن السودان مشغول بشأنه الداخلي وأنه يسعى إلى إشاعة الاستقرار والأمن في الإقليم، فكيف يتسنى له تهديد الأمن القومي الأمريكي عبر الأطلسي، لكنه عاد وشدد على أن العقوبات الأمريكية على السودان (صارمة) لا تعتمد على أساس موضوعي، موضحاً أنها تؤثر على المواطن العادي في معاشه وفي إحداث التنمية التي هي حق من حقوق الإنسان. وزاد: (أمريكا ليست لديها أرضية كافية للحديث عن الناحية الإنسانية). واعتبر وكيل وزارة الخارجية أن الإدارة الأمريكية كأنما أطلقت رصاصة على قدميها، مشيراً إلى أن الدراسات أثبتت أن أمريكا وبفرضها عقوبات على بعض الدول تفقد فرصة استثمارات ضخمة خاصة في بلاد غنية كالسودان، مذكراً بأن السودان وجد بدائل استثمارية أخرى.
السفارة بواشنطن: الخطوة (غير مبررة)
وفي السياق رفضت سفارة السودان لدى “واشنطن” تجديد الرئيس الأمريكي “باراك أوباما”، العمل بقانون الطوارئ الوطني المفروض على السودان منذ 1997، واصفةً الخطوة بأنها (غير مبررة). واتهمت السفارة في بيان أصدرته أمس الإدارة الأمريكية رداً على تجديد العقوبات بالمراوغة ووضع شروط واهية لرفع العقوبات، ما أن تحققها “الخرطوم” تضع “واشنطن” شروطاً أخرى. وتهكمت على تحجج “واشنطن” بالإبقاء على العقوبات بسبب الأمن القومي وفي نفس الوقت تمتدح الدور السوداني الرئيسي في مكافحة الإرهاب، مؤكدة أن ما يعرض الأمن الوطني للخطر هو الاستقطاب والعزلة الناتجة عن رؤية الناس لمجموعة من الأفعال والتوجهات على أنها غير عادلة وليس لها مسوغ. وأضافت السفارة أن الشعب السوداني والذي كان في يوم من الأيام يقدر الحكومة الأمريكية بصورة كبيرة أخذ بصورة متزايدة يتبنى نفس المواقف والآراء التي يتبناها أولئك الذين يعيشون في الشرق الأوسط. وقالت السفارة إن العقوبات الأمريكية تعمل فقط على مضاعفة معاناة الناس، موضحةً أن الإدارة الأمريكية فشلت في تصحيح هذا الخطأ الفادح واختارت الإبقاء على السياسات القديمة التي تضر الناس، وتساعد الحركات المتمردة التي تريد إسقاط الحكومة. واختتمت بيانها بدعوة صناع القرار الأمريكي بتغيير سياستهم تجاه المواطن السوداني البريء بسبب الأضرار الاقتصادية الظالمة لهذه العقوبات، بحسب تعبير البيان.
رسالة أمريكية لمؤتمر الوطني
ويأتي القرار الأمريكي في وقت دقيق تمر به الأوضاع الداخلية في السودان فمن تراجع واضح للحوار الوطني الذي ابتدره الرئيس “البشير” مع القوى السياسية المعارضة، إلى استمرار الحرب الأهلية في جنوب كرد فان والنيل الأزرق، فيما تظل الأوضاع المضطربة في إقليم دارفور تراوح مكانها بل وتتراجع فيها سلطة الدولة وترتفع فيه لغة السلاح الذي يحصد الأبرياء، وقت لازالت فيه مطالبات المحكمة الجنائية الدولية للدول بضرورة إلقاء القبض على الرئيس “البشير” كان آخرها مطالبتها لسلطات المملكة العربية السعودية إبان زيارة الرئيس لها بتنفيذ مذكرة المحكمة القاضية بإلقاء القبض عليه وترحيله توطئة لمحاكمته. ومن الواضح أن بيان البيت الأبيض الذي صدر في هذا التوقيت يريد إرسال رسالة واضحة للحكومة السودانية برفض أمريكا لترشيح “البشير” لدورة أخرى. ففي الوقت الذي يعقد فيه الحزب الحاكم مؤتمره الذي توجه بإعادة ترشيح الرئيس لدورة رئاسية أخرى، ويبدو واضحاً أن كل جهود الحكومة لم تفلح في إلغاء العقوبات الأمريكية التي فرضت عليها من الجانب الأمريكي، بعد أن بدأت الحكومة السودانية التعاون مع الجانب الأمريكي في الجهود الإقليمية لمكافحة الإرهاب وإبعاد كل من تحوم حوله شبهة إرهابية، وتنفيذ اتفاقيات السلام الشامل الذي أدى لقيام دولة الجنوب، في وقت عملت فيه السياسة السودانية بكافة السبل على تقديم تنازلات كبيرة من أجل تطبيع العلاقات مع أمريكا.
خبراء الاقتصاد: القرار يتسبب في مشكلات لقطاعات عديدة بالبلاد
وفي سياق حديثه تعليقاً على القرار الأمريكي وتأثيراته الاقتصادية، قال الخبير الاقتصادي وزير المالية والاقتصاد الأسبق “عبد الرحيم حمدي” للصحيفة، إن قرار تمديد الطوارئ الأمريكي والعقوبات الاقتصادية على السودان ليس بالجديد أو المفاجئ، وهو يتم سنوياً بصورة روتينية في اليوم الثالث من شهر نوفمبر منذ (1997)، لكن هذه المرة صدر مبكراً لإرسال رسالة للحكومة السودانية وحزب (المؤتمر الوطني) الذي رشح “البشير” للرئاسة لدورة قادمة. وعن تأثيراته على الاقتصاد السوداني أوضح “حمدي” بأن القرار مزعج ويتسبب في مشكلات لقطاعات عدة بالسودان، وتوقع “حمدي” أن تظل السياسة الأمريكية تجاه السودان هي هي حتى في حال مضت الحكومة في الحوار مع القوى السياسية، أو لم يفِ، مشيراً إلى أنها ستظل تضغط الحكومة حتى تحقق هدفها. ونبه بأن السياسة الأمريكية تجاه السودان لن تغير سياسة النظام وليس النظام برمته، عبر تقديم تنازلات وتغيير الأوضاع والحوار والديمقراطية.
تطمينات وزير المالية تذهب أدراج الرياح
وكان وزير المالية والاقتصاد “بدر الدين محمود” بشر عقب عودته من الولايات المتحدة الأمريكية الأسبوع الماضي، بتحسن سيحدث في العلاقات مع “واشنطن”، بل ذهب أبعد من ذلك حينما توقع ازدهاراً في العلاقات بين البلدين بما يسهم في تحسن الوضع الاقتصادي.
ونوه الخبير الاقتصادي الدكتور “محمد الناير” إلى أن الإدارة الأمريكية ظلت تتعامل مع السودان تعاملاً غريباً، حيث أعطت إشارات إيجابية في العلاقة مع السودان في زيارة وزير المالية الأخيرة إلى “واشنطن”، لكن القرار بتمديد الطوارئ جاء مغايراً. وأضاف:(تمديد الطوارئ لا يضيف جديداً على الأوضاع في السودان، لكن تظل البلاد تعاني من العقوبات الاقتصادية خاصة قطاع المالية وتعاملات القطاع المصرفي)، مشيراً إلى أن الحظر يتأثر منه المواطن والشرائح الضعيفة، بينما لا يؤثر على الدولة، معتبراً التجديد يتنافى مع مبدأ حقوق الإنسان الذي تدعيه أمريكا، والخيار والحالة كذلك أن يواصل السودان الحوار السياسي لإحداث الاستقرار الأمني لتقليل الأثر لهذه العقوبات وبعدها يمكن أن يتجاوب المجتمع الدولي مع السودان .
ويذكر “الناير” تجديد “واشنطن” لقرار الطوارئ القومية حول السودان، بأنه يؤكد أن المجتمع الدولي والولايات المتحدة لا يوفيان دائماً بالعهود، حيث تكررت التجربة عقب تنفيذ السودان لاتفاقية “نيفاشا” حيث تنصل المجتمع الدولي عن دعم السودان. وقال “الناير”: هذه عهود أمريكا التي تنعدم عندها المصداقية، داعياً إلى تحقيق توافق داخلي واستقرار أمني وترغيب الحركات المسلحة، للاستجابة للحوار حتى يتجاوب معنا المجتمع الدولي بصورة أوسع .
ملفات حاضرة تحتاج التنفيذ الحقيقي
أخيراً يرى مراقبون أن إحداث تغييرات واسعة النطاق في المشهد السوداني تتصدرها ملفات الحريات العامة وحرية الإعلام والحوار الوطني الذي يفضي لتداول سلمي للسلطة، وإيجاد حل سلمي لقضية دارفور ومناطق النزاع الأخرى في جنوب كردفان والنيل الأزرق بالإضافة لملفات حقوق الإنسان، بالإضافة للملف الأهم للإدارة الأمريكية وهو ملف الإرهاب، حيث ترغب في إغلاقه نهائياً والكف عنه، فمثل هذه القضايا وحدها التي إذا ما تم تحقيقها عبر نتائج ملموسة على أرض الواقع، فإن الإدارة الأمريكية ستكون مجبرة على إعادة النظر فيها، وربما تذهب أبعد من ذلك عبر دعم تسوية سياسية واسعة النطاق تسهم في تحقيق الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي، وتبقى البحر الأحمر بعيداً عن الإرهاب العالمي أو انفلات الأوضاع التي تخلق بيئة مواتية لتغذية الإرهاب.
المجهر السياسي
خ.ي