الجنوب .. فوضى السلاح
قبل أن يلتقط البعض في جنوب السودان انفاسه من الجدل المثار هذه الأيام على خلفية نتائج الاحصاء السكاني بعد أن جاء بأقل مما يتوقعون، دفع رياك جوك مدير لجنة أمن المجتمع والحد من الأسلحة في الجنوب باحصائية جديدة ومثيرة للجدل، ولكنها للسلاح هذه المرة.
رياك قال: إن نحو مليوني قطعة من الأسلحة الصغيرة لا تزال في ايدي المدنيين في جنوب السودان حسب ما جاء في صحف الخرطوم أمس الأول، وفي اليوم الذي سبق ذلك، كانت عنوانين تلك الصحف أن الجنوبيين (21%) من السكان، وأن (43%) من السكان صغار سن.. واذا قرأنا عدد المليوني قطعة سلاح مع هذه النسب، مخصوماً منها (517) ألف نسمة هم عدد الجنوبيين في الشمال، فإننا نحصل على نتيجة مفادها أن كل من يستطيع حمل السلاح من المدنيين يحتفظ بقطعة منه، إما في بيته او على ظهره ليستعمله في اليوم الأسود كما يقولون.
ويبدو ان الكثير من المدنيين في الجنوب فقدوا ثقتهم في كل شئ، سوى بنادقهم التي يحمون بها مواشيهم ويخوضون بها نزاعاتهم القبلية، ولهم فيها مآرب أخرى، وهو ما دفع اروب موياك رئيس لجنة التسريح ونزع السلاح وإعادة الادماج بجنوب السودان للقول إن تعثر عشرات الآلاف من المقاتلين السابقين في الجنوب سيؤدي الى كارثة، وأضاف: لا يعرف كثيرون منهم أية حياة سوى وراء بندقيته.
ويبدو ان انتشار السلاح في الجنوب بات يشكل مصدر قلق للحكومة هناك، فبحسب بيور اسود مسؤول الإمداد في الجيش فإن انتشار السلاح يمثل لهم مصدر قلق، وقال إن الحركة استوعبت حتى الآن نحو أكثر من (60) ألفاً من عناصر المليشيات في الجنوب، وأغلب الذين جاءوا تركوا اسلحتهم في المنازل وبعضهم قام ببيعها.
وقطع أسود في حديث مع «الشرق الأوسط»، إن كل قبائل الجنوب البالغة نحو (60) قبيلة كبيرة لديها مليشيات مسلحة تتفاوت من حيث الحجم والتنظيم والإعداد وأكثر القبائل تسليحاً هي القبائل المتاخمة للحدود مع دول الجوار مثل يوغندا، وكينيا، واثيوبيا وذلك لتوفير الحماية لها ولممتلكاتها من المواشي على وجه التحديد.
ويمضي محللون عسكريون الى أن الحصول على السلاح في الجنوب يتم عبر طرق وأساليب عديدة، حيث تتوافر أعداد كبيرة منه بفعل المعارك التي كانت دائرة بين القوات المسلحة والحركة الشعبية والمليشيات المؤيدة لهما هناك، الى جانب حركة التسليح عبر مناولة من دول الجوار الافريقي وإسرائيل، هذا الى جانب وجود تجار سلاح من دول مجاورة ينشطون في بيعه بالاقاليم.
وأكثر روافد السلاح في الجنوب ناتجة بحسب مراقبين من عمليات التسريح التي تتم من وقت لآخر عقب توقيع اتفاقيات السلام، فأغلب المسرحين في الجنوب منذ حركة الانانيا التي وقعت في العام 1972م على اتفاقية سلام في اديس ابابا، لم يسلموا اسلحتهم الى الجهات المشرفة على التسريح في الجنوب فصاروا بحسب احد العسكريين الذين عملوا في الجنوب لفترة طويلة مصدراً مهماً من مصادر التسليح في الجنوب، بصورة اغرت آخرين للخروج الى الغابة والتمرد على الخرطوم مرة أخرى.
وأضاف اللواء ماج بول من الجيش الشعبي سبباً آخر لانتشار السلاح في الجنوب وهو المليشيات التي لجأ الجيش اليوغندي الى تجنيدها أخيراً، وقال إن هذه المليشيات ليست تحت السيطرة، وكثيراً ما تلجأ الى بيع اسلحتها بسعر زهيد من أجل الحصول على المال الذي يحتاجون.
لكن اللواء ماج بول شكك في صحة الأرقام التي سبقه اليها رياك جوك عن عدد الأسلحة في أيدي المدنيين بالجنوب. وقال في اتصال هاتفي اجرته معه (الرأى العام)، لا اظن ان هذه الأرقام حقيقية وزاد: نحن نتوقع حسب تقديراتنا ان الاعداد الموجودة من السلاح بأيدي المدنيين في الجنوب تتراوح بين (80-100) ألف قطعة سلاح، ولكن الحديث عن (2) مليون قطعة سلاح غير صحيح هذا رقم غير متوافر حتى للجيش الشعبي والقوات المسلحة مجتمعين، ناهيك ان يكون بحوزة المدنيين في الجنوب.
وفي المقابل يرى الخبير العسكري د. محمد العباس الأمين ان ما ذهب اليه مدير لجنة أمن المجتمع والحد من الأسلحة في الجنوب بوجود (2) مليون قطعة سلاح بيد المدنيين لا يوجد فيه شئ من المبالغة، وقال لـ (الرأى العام) إن هناك دراسات موثقة بينت أن (60%) من السلاح في افريقيا يحمله أفراد عاديون خارج إطار القوات النظامية، وعلى خلفية تلك الدراسات فليس مستبعداً ان يكون ما ذهب اليه رياك جوك هو الأقرب الى الصواب.
ومهما يكن من أمر، فإن بقع التوترات الأمنية بالجنوب، والمواجهات القبلية التي تتجدد بعنف هذه الأيام، وعدم قدرة الحركة على توفير المقابل المادي لحاملي السلاح من المدنيين كي يسلموا اسلحتهم طوعاً، يجعل الحديث عن نزع السلاح محض امنية عسيرة المنال في الوقت الراهن على الأقل، ففي ظل الظروف المواتية التي جعلت منه متوافراً ويسهل الحصول عليه بأقل ثمن، من الطبيعي ان تتصدر أخبار انتشار السلاح في الجنوب لا نزعه صحف الخرطوم.
فتح الرحمن شبارقة :الراي العام