عبد اللطيف البوني

فش غبينته وبنى مدينته


[JUSTIFY]
فش غبينته وبنى مدينته

من حيث الشكل هناك وجه شبه بائن بين نليسون ما نديلا وأحمد فؤاد نجم فكلاهما رفيع الجسم رشيق القوام وهناك نقرة شيب تجعل شعرهما فضي ويبدو للمتأمل فيهما أن هناك نضرة في الوجه تخرج من ثنايا الغبرة التي تكسو إطار الصورة أما من حيث المضمون فالشبه بينهما لايحتاج لكثير جهد فكلاهما ثائر, مناضل صلب, أفنى عمره في حب شعبه مع اختلاف الأدوات فمانديلا سلك دروب السياسة الوعرة ومؤسساتها وأحمد فؤاد سلك درب الكلمة والأدب وبكل وعورة.
أجمل نعي لمانديلا بدا لي قد حدث مع أول نعي له على لسان جاكوب زوما رئيس جمهورية جنوب إفريقيا حيث قال للعالم (رحل اليوم في سلام …. ) كلمة سلام هي مفتاح الفهم لرحيل مانيلا نعم لقد رحل في سلام لأنه أكمل مشروعه ولم يعد لديه ما يقدمه وهذه نعمة كبيرة. لقد عاش مانديلا طفولة معذبة عانى فيها تفرقة عنصرية بغيضة وهو يعيش في بلاده بين أهله الذين خلقوا فيها ثم أمضى شبابه في السجن من أجل الكرامة والإنسانية لأمته أما كهولته فقد أمضاها في بناء أمته بعد أن خلصها من أبشع عملية لا إنسانية.
لم يركن مانديلا للثأر والانتقام ولو فعل كان سيجد المبرر ولكنه آثر أن لا يضيع سنوات أخرى من عمر شعبه فيما لا طائل منه لذلك قبل اعتذار البيض ووافق على مصالحتهم ليس حباً فيهم بالتحديد إنما حباً في شعبه والإنسانية.. لقد فش غبينته نضالاً وبعد أن حقق هدفه اتجه للبناء وليس للانتقام فاستلم الحكم من البيض وكان يمكنه أن يكون موجودًا في سدة الحكم إلى يوم الجمعة الماضي. كان يمكن أن يحكم باسمه وهو بين الغيبوبة والصحيان هذا لو كان طاغية ولكنه وهو في قمة عافيته ترجل عن الحكم ليؤسس لشعبه تداول السلطة. هذه النعمة التي حرمت منها كل إفريقيا وأمضى شيخوخته في الوساطات لحل النزاعات وتقديم الندوات والسفريات والتكريمات والمرض والمستشفيات إلى أن رحل في سلام.
أحمد فؤاد نجم الفاجومي فقد حباه الله بموهبة شعرية نادرة وفي المجتمع لمصري الذي يجيد صناعة وتسويق النجوم كان يمكن لنجم أن يتكسب من موهبته هذه ويعيش في برج عاجي عاش فيه من هو أقل منه موهبة ولكنه كان صادقاً مع نفسه صادقاً في تمرده صادقاً في ثورته وظل مندمجاً في موهبته التي وهبها للفقراء والمعذبين في الأرض فامضى عمره متنقلاً بين السجون وأسقف العمارات سجنه عبد الناصر الذي أحبه نجم حياً وأحبه أكثر بعد موته. سجنه السادات الذي أطلق عليه اسم الشاعر البذئ سجنه مبارك وناول مرسي من تقيل أشعاره ولم يسلم من شعره حتى السيسي. إنه ضد أي سلطة حتى سلطة البيت والأسرة، ضد أي مظهر من مظاهر البرجزة لذلك كانت قصيدته كلب الست (الست أم كلثوم) جواز مروره لكل العالم العربي إنه عدو كل المسلمات وصديق لأي صيحة رفض، إنه شاعر يقطر شعره تمرداً لقد فش غبينته عن طريق شعره من أجل بناء مدينته ودفع ثمن ذلك في سعادة يحسده عليها المتقلبون في نعيم الدنيا.
لئن رحل مانديلا في سلام لأنه أكمل رسالته فإن أحمد فؤاد نجم قد رحل الآخر في سلام لكنه سلام مع طبعه الخاص الذي لم يحيد عنه طوال حياته لقد أكمل هو الآخر رسالته على أتم وجه ولم تبق له إلا زيادة في الكم لو أمد الله في أيامه فالخلود في الملكوت الأعلى لمانديلا والرحمة والمغفرة لأحمد فؤاد نجم.
[/JUSTIFY]

حاطب ليل – أ.د.عبد اللطيف البوني
صحيفة السوداني
[email]aalbony@yahoo.com[/email]