الوزير المتطوع
لم أكن أستطيع الكتابة ملء مدادي عن ما تناهى إلى منذ وقت ليس بالقصير عن أن وزير الصحة في ولاية الخرطوم مأمون حميدة يعمل وزيراً متطوعاً دون راتب أو مخصصات بعد أن احتسب كل ذلك لله والوطن، لولا أنه أقر للزميلة سهام منصور في حوارها معه لصالح عدد أمس من (آخر لحظة)، وطالما أن (جهيزة) قطعت شكي باليقين وهي في كامل وعيها وحالتها المعتبرة شرعاً، رأيت أنه من باب المناصحة الرشيدة التي ينبغي لها أن تأخذ حيزها بين الرعاة ورعاياهم أن أنال (حفنة) من الحوار بمقدار قبضة اليد وأنثره في هذه المساحة ليقتات منه من يقتات ويمسك من يمسك أفعل ذلك زكاة لزوايتي هذه بعد أن بلغت النصاب وفاضت كلماتها في خصوص الوزراء الصالحين والطالحين والضالعين و(الغارمين)، محتسباً أجري عند عزيز مقتدر لا أسأل عنه أحداً ولو كان (حكومة)، كما فعل وزير الصحة الولائي، و(ما فيش حد أحسن من حد)، وكلنا عباد الله سواسية كأسنان المشط.
وبين أسنان مشط هذه الزاوية انشبك سؤال سهام في إجابة حميدة، فقال إن الوزارة أعطته فرصة لخدمة الآخرين، وإنه يرجو أن يضع المولى عز وجل أعماله الوزارية الدنيوية في ميزان حسناته الأخروي، وإنه جاء إلى الوزارة لتنفيذ مهمة إنسانية لذا تنازل عن راتبه وكل مخصصاته ما جعله أكثر راحة وتحرراً في تنفيذ مهامه.
يا للدهشة! حاجبا زاويتي ارتفعا وتقوسا، وكادا (يطيران) من موقعيهما الأبديين ويحطان أعلى رأسي أو خلف أذني أو أسفل ذقني، فالوزارة وظيفة وليس عملاً طوعياً وينبغي أن لا تقبل الحكومة بتشغيل مواطن صالحاً كان أم طالحا في أية وظيفة عامة دون مقابل، لأنها إن فعلت ذلك فإنها ستبدو كمن تؤذن في الناس أن حي إلى الفساد، وسميت الوزارة وظيفة حتى لا يعتقد شاغلها أو (ساكنها) أنها ملك يمينه يأتيها متى شاء أو يمسك عنها، أو يهديها أو يحررها (فك رقبة)، متى ما يريد، وسميت وظيفة لأنها تؤدى مقابل راتب كحق يعطى لشاغلها في فترى زمنية محددة نظير عمل (واجب) يوديه خلال الفترة المحددة (شهر) في الغالب.
وهذه النظرية العتيدة لم توضع خبط عشواء، بل انبت على مبدأ المحاسبية، مبلغ مالي مقابل عمل، وتترتب عليه شروط جزائية، استيضاحات، إنذارات، خصم من الراتب، فصل عن العمل، لجان للمحاسبة على التقصير، وكل هذا لا يمكن فعله إزاء موظف (مشغلنو ملح) دون راتب، لذا دعوني أتساءل: كيف يمكن لوالي الخرطوم وأمصارها أن يخضع وزير صحته للمحاسبة لا قدر الله إذا قصر في عمله- وهو بشر يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه؟.
أما قبل: قيل للوزير ماذا أضافت إليك الوزارة، قال: أعطتني فرصة لخدمة الآخرين، فطارت عصافيري، إذ أنني اكتشفت ولأول مرة في حياتي أن الوزير حميدة ظل يتكبد العناء والمشاق الجسام ليحصل على فرصة لخدمة الآخرين فلم يجدها (في العلوم الطبية والتكنولوجيا، يستبشرون، الزيتونة، وربما دار العلاج)، وبينما هو في شوق عظيم إليها جاءته تجرجر أذيلها فلم يتوان في التقاطها وضمها إلى صدره بحنان وتؤدة يحوم بها بين الفقراء والمساكين وأبناء السبيل والغارمين يخدمهم بها ويحنو عليهم عبرها حنو المرضعات على الفطيم.
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي