الخبير الاقتصادي عبدالرحيم حمدي: نشأت في اسرة علم ومعرفة ودارت معركة فكرية بين والدي وجدي
رجل ملأ الدنيا وشغل الناس اقتصادياً وسياسياً.. وهو رجل عالم وموسعي..ومثير للجدل.
بدأ صحافياً وكاتباً.. ودرس الاقتصاد بجامعة الخرطوم.. شغل مناصب عليا خارج الوطن وفي مصارف عالمية.. اول من ادخل سياسة السوق الحر في الاقتصاد السوداني.. والتي اثارت الكثير من الجدل وسط اهل الاقتصاد والمال.
وعبدالرحيم حمدي الخبير الاقتصادي العالمي ووزير المالية الاسبق..رجل ممتليء ثقة بنفسه.. وبعلمه.. وبقدراته.
وهو من وزراء المالية الاكثر حرصاً على المال العام.. حتى ان احد الظرفاء قال لا ادري كيف كنا نعمل مع عبدالرحيم.. ان كان اسمه عبدالجبار.
عبدالرحيم حمدي نشأ في اسرة متدينة ومستنيرة.. ومن صفاته اللافتة انه صاحب قرار.. ويملك قدرة كبيرة على اتخاذ القرار مهما كانت درجة صوابه أو اعتراض قلة من الناس عليه، للرجل صبر لافت.. وقدرة هائلة على الحوار وهو صاحب صدر واسع.
لمدة ثلاث ساعات كنت في حضرة الاستاذ عبدالرحيم حمدي.. استمتعت كثيراً بالحوار معه واستفدت كثيراً من معلوماته ومن علمه ستبحرون معه في سبع حلقات ممتعات.
شكري لاستاذنا عبدالرحيم حمدي للتحدث والاستجابة.. ولصبره الطويل واستعداده الذي لا حدود له.. نسأل الله له الصحة المستدامة.. والعطاء المتواصل.
————————————————————————————————–
نحن سعداء بلقائك وشاكرون لك جداً لتلبيتك دعوتنا، وسؤالنا الاول هو سؤال تقليدي، انت نشأت في اسرة علم ومعرفة حديثة، وكانت من القامات المحيطة الدكتور سعدالدين فوزي «ان لم اكن مخطئاً» دعني اسأل د.عبدالرحيم ايضاً عن طفولته هل يذكر تفاصيلها، والكثيرون ممن اجرينا معهم احاديث تلقوا تعليمهم الاولى في الخلاوى بل ان بعضهم يحفظ القرآن، احك لنا كيف بدأ تشكيلك في سنوات ما قبل الابتدائي والمرحلة الوسطى والثانوي؟
– انت ذكرت انني نشأت في اسرة علم ومعرفة، وانا اريد ان القي الضوء قليلاً على هذه الاسرة وعلى هذا الجو، انا والدي وجدي اشتبكوا في معركة جريدة «الفجر» حول الحجاب والسفور في الثلاثينيات تقريباً، وكانت معركة مشهورة، وكان جدي الشيخ علي حمدي كاتب محكمة شرعية وكان من الجرأة الفكرية بحيث ان عدل في اسمه حيث كان يعمل مع مصريين وجاء منتدبون من مصر وقالوا له «ان اسمك ثقيل على اللسان الشيخ علي حمد العبادي أو الشيخ علي حمد الحكيم» فاضاف الياء وصار الشيخ علي حمدي، وهذه لا تحدث إلا نادراً. وعندما نشأت هذه المعركة وتبادلا الكتابة كان والدي مع السفور باعتباره الجيل الجديد، لكن السفور طبعاً مسألة نسبية، وعندما واجه اول اختبار بعد ان تزوج والدتي كان اقصى ما فعله ان البسها «الطرحة والروب» بدلاً عن «التوب» وكان هذا هو مفهومه عن السفور، لكن هو رجل ثائر فكرياً وورثني هذه العادة واورثها لنا كلنا ولم يحاول ان يفرض علينا اي اتجاه في تربيتنا، وكان من ناحية سياسية «وطني اتحادي» وكان له قصائد للازهري في دواوينه المشهورة فقد كان شاعراً، وكان يساندني دائماً، وعندما كنت اكتب في صحيفة «الميثاق» واهاجم واهاجم كان يعطيني سنداً فكرياً ومعنوياً كبيراً جداً، وتحمل في سبيل ذلك عاطفياً تحملاً كبيراً.
وجدي الشيخ علي حمدي بلغت به الجرأة والتحدي ان يرسل ابنه عبدالوهاب علي حمدي سنة 1936 في بعثة خاصة الى انجلترا ، وعبدالوهاب علي حمدي كان من قادة إضراب الكلية الشهير عندما خفض الانجليز المرتبات، واعتقد -فيما سمعت- انه هو والسيد الصديق المهدي قادا هذا الإضراب ففصلوا، فارسله الشيخ علي حمدي تحدياً بماله من موارد شحيحة جداً في بعثة الى انجلترا وتخصص في الهندسة الميكانيكية في ذلك التاريخ البعيد، ومن ناحية الوالدة ايضاً محمد سعيد بيومي وسيد بيومي جد والدتي اشتبك مع الانجليز ودخل السجون، فنحن «حقيقة- اسرة منافحة تتميز بثورية في الفكر والتعامل، واعتقد ان هذا اثر في نشأتي، نحن اسرة موظفين عاديين هو طبيب تخرج 1932 عندما كان الانجليز يخرجون «3- 5» اطباء في السنة، وايضاً هو وعبدالوهاب حمدي اشتبكوا مع الانجليز فعاكسوه معاكسة كبيرة في البعثات ولم يرسلوه في بعثة إلا في العام 1951 الى انجلترا، وعندما عاد عمنا عبدالوهاب من بعثته الشخصية وكان يفترض ان يكون اول مدير للنقل الميكانيكي بحكم تخصصه اشتبك مع مدير انجليزي وصرعه وكانت النتيجة ان تم نقله للجنوب وهناك تزوج جنوبية وانجب منها فانا خال جنوبيين، وهذه ايضاً مسألة ثورية في اسرة شمالية ان يتزوج من ذلك الجزء من الوطن، وعاصرنا ابنته سعاد وعاشرناهم الى وقت قريب. وكان هناك ود بيننا وساعدتها في تشغيل بعض ابنائها، فنحن اسرة غير تقليدية وقد يفسر هذا بعض الشيء ما علق بحياتي، لان الناس دائماً يحبون وصفي بـ«المثير للجدل»، وانا لا اعتبر هذه اساءة أو مدحاً، فانت لا تثير للجدل لانك تريد اثارته بل تثيره بسبب افكار أو اجراءات أو مقررات أو غيره.
انا طوال حياتي الدراسية بعد دخول هذه المراحل كنت شخصاً انطوائياً وفجأة تحولت الى شخص ثوري «بين قوسين» واقود المظاهرات والتنظيمات السياسية وفي قلب العملية السياسية الطلابية على عكس طبيعتي الشخصية. ولم نعاصر المرحوم سعدالدين فوزي «الذي ذكرت اسمه» وهو انشأ كلية الاقتصاد والدراسات الاجتماعية العام 8591م وتوفى بعدها، وجاءنا مرة واحدة فقط في الفصل لتهنئتنا «وكنا اول دفعة تدخل هذه الكلية»، ولم يتحدث عن الاقتصاد بل تحدث عن الشعر الانجليزي، وفي ذلك اليوم تحدث عن قصيدة الشاعر «ودورث» «الملاح التائه» أو الملاح القديم، وابرز ناحية لم اتصورها فيه إذ لديه مقدرة عجيبة على فهم وشرح الادب الانجليزي، وهذا دليل على عمق عبقرية هذا الرجل. وللاسف الشديد سافر بعدها الى انجلترا وهناك توفاه الله. فنحن لم نلحق بسعدالدين فوزي على الاطلاق وان لحقتنا آثاره، فنحن خريجو أول كلية انشأها سعد الدين فوزي.
بالنسبة للسؤال عن المولد فلان والدي كان طبيباً ويتنقل فقد ولدت في المدينة التي كان فيها والدي في ذلك الوقت وهي مروي من العام 1939 ، وكان حكيمباشي مستشفى مروي فولدت هناك، ودليل التنقل ان اخواني ولدوا في مختلف المدن فمنهم من ولد في بورتسودان، وام درمان، وشندي، وسنار، وواو، فهذا ايضاً يعطينا بعداً سودانياً فنحن تنقلنا في كل انحاء السودان، ولذلك ليس لدى اشياء تربطني بمكان معين، اولاً ليس لدينا قبيلة من القبائل فنحن «عبابدة» بحكم المنشأ وقبيلتنا لكن انا لا احب هذه الصفة ولا احب ان اتفاخر بها، وانا اعتبر اننا «فلتنا» من اسار القبيلة مبكراً بالثقافة والفكر والانتماء السوداني العريض ولاحقاً بالانتماء الاسلامي، ولو سألتني من انت؟ اقول لك: انا مسلم، العالم هو وطني وهذا افضل انتماء اتفاخر به، ولا اقول لك انا عربي بل اقول: انا مسلم، لانني وجدت نفسي- حقيقة- في الاسلام، وحياتي وانا كبير منذ الوعي وبدايتها في الثانوي كلها كفاح في الحركة الاسلامية وارتباطات اسلامية، فانا مهيأ وهيئت بحكم التربية ومهنة الوالد ان اكون متسع النظر جداً.
? مقاطعة= وماذا عن حياتك قبل الثانوي لو تحدثنا عنها قليلاً؟
– قبل الثانوي…. كما ذكرت لك..بدأت الكتاب بشندي سنة 1946 وتنقلنا في ثلاث مناطق فدرست في ام درمان والخرطوم وبربر بدون تفاصيل «اي الكتاب في اربع مناطق»، ثم الاستقرار في ام درمان لاحقاً وهناك درست بام درمان الوسطى «وكان الكتاب يليه الوسطى»، لان الوالد تزوج في حدود 1948 وصار ينتقل مع زوجته الثانية ونحن استقررنا بام درمان قريباً من اخوالي المرحوم د.عبدالحليم بيومي وعبدالرحيم بيومي وكانوا كلهم بام درمان، وتقريباً اثروا على تربيتنا تأثيراً كبيراً جداً، وبهذا تم استقرارنا وكان الابتدائي كله في مدرسة ام درمان الوسطى ومنها انتقلنا الى وادي سيدنا الثانوية.
وفي ام درمان الوسطى كانت توجد وفي نفس المبنى التجارة الثانوية وهي كانت مدرسة ثانوية ولا اذكر انها اثرت فينا سياسياً أو فكرياً، ولكن اذكر فقط انه اثر علينا كروياً وكان برعي احمد البشير نجم الكرة طالباً في تجارة وكانت المنافسة مع الاهلية الثانوية وكان فيها ابوالعائلة وكانا النجمين اللذين يقودان المنافسة. وكنا ننظر لهما كمدارس تقود الرياضة، ولم يكن فيها نشاط سياسي كبير وظاهر.. وكان برعي وابوالعائلة في الدفعات التي سبقتنا، اما في دفعتي في الابتدائي د. الطيب يوسف صالح والآن هو نائب عميد في كلية نصر الدين أو نائب مدير الجامعة، وكنا وقتها نتنافس على المراكز الاولى، وانا لم اكن ابذل مجهوداً ولم تكن مسألة المذاكرة معروفة بالنسبة لي، ويبدو ان الدراسة كانت سهلة.
? أو ان الذكاء كبير؟
«ذكاء المدارس ده انا ما بعتبرو مقياس، لان هناك ذكاء عملي وذكاء في الحياة»، فاذكر الطيب يوسف وآخرين بدأت اسمائهم تتبخر ولانني كنت منعزلاً جداً في الابتدائي كان لي صديق اسمه محمد صالح- اعتقد انه مازال على قيد الحياة- وكنا لا نتحدث مع بعض لكن ننعزل مع بعض و«نقيف نعاين» ونتبارى في نوع العربات ونحاول معرفة نوع الموديل من مسافات بعيدة «وكانت ام درمان الوسطى على شارع الموردة». وكانت هذه سلوتنا الوحيدة، وانا كنت شخصاً انطوائياً جداً ولذلك كان الذين عرفوني لاحقاً مندهشين جداً في كيفية حدوث هذا التحول، وانا نفسي من المندهشين. ورأيت ما يحدث لابني لاحقاً ولم استغربه بل شجعته عليه، وكان أساتذته يقولون انه شخص انطوائي ولا يصلح في علم ودرجاته ضعيفه، وفجأة تحول الى حزبي ثائر وحدث له ما حدث لابيه.
? استاذ حمدي كانت المرحلة الثانوية هي التي تم فيها نشر الفكر أو طرح السياسة وتم فيها الاستقطاب في المجموعات والاسر والاخوان المسلمين والشيوعيين والاتحاديين أو البعثيين والقوميين وغيرهم، ما هي مقومات انتمائك للاتجاه الاسلامي؟
– في الفترة التي عايشناها نحن في الثانويات في وادي سيدنا وهي من 54- 1958 كان هناك حزبين أو مجموعتين هي مجموعة الجبهة الديمقراطية وهي شيوعيين والهالة التي حولهم من الديمقراطيين أو المؤيدين، ومن الناحية الاخرى الاخوان المسلمين، وظهرت حركة الطلاب المستقلين في الجامعة ولم يظهر لهم شكل قوي في الثانويات في ذلك الحين، لكن ظهر الاتحاد العام للطلاب السودانيين «على ما اعتقد» في 1954 بدفع من الاخوان المسلمين والتحالف مع المستقلين خاصة في الجامعة لكن حركة المستقلين كانت ضعيفة حتى ان الشيوعيين اسموها «البيبسي كولا» استهزاءً لان «البيبسي كولا» ظهرت في السودان في ذلك الوقت، وحاولا يستهزأوا بهم على اساس انهم بلا لون ولا طعم ولا تأثير كبير. وكانت المنافسة بين حركتين فقط، وحتى ما ذكرت من المجموعات الاخرى من اتحاديين أو بعثيين أو غيرهم لم يكن له وجود ولكنهم ظهروا لاحقاً جداً في الجامعة بعد ان تخرجنا نحن منها ربما في السبعينات، ونحن في الجامعة ظهرت حركة القوميين العرب لان حركة عبدالناصر كانت حركة عالمية وامتدت آثارها الفكرية الى الجامعات، لكن كانت الحركة الاسلامية والحركة الشيوعية، ومقومات الحركة الاسلامية في ذلك الزمن بحسب ما عرفنا نحن لاحقاً- انها حركة وافدة من مصر في شكلها التنظيمي ولها مراحل، في مرحلة قادها المرحوم علي طالب الله والذي تلقى البيعة على يد الامام حسن البنا عام 1947 تقريباً أو 1948 ، وانشأ بعض الاسر أو الخلايا غالباً في منطقة الموردة وحي الضباط وغيرها، لكنها اندثرت.
والمرحلة الثانية مرحلة شعبية جاءت بمجهود مصري، جاء السكرتير العام عبدالحكيم عابدين من مصر للسودان واجرى اتصالات وليالي سياسية واجتماعات كثيرة وجاء معه احد الاخوان من دنقلا جاءوا وذهبوا وقدموا تقريراً بانهم انشأوا حوالي خمسين شعبة في السودان ولم يكن هناك شيء مثل هذا، ربما كل شعبة موضوعة في الليلة السياسية اعتبروها شعبة وتم تعيين اناس لكن لم تترك اي اثر، ثم المرحلة الثالثة والتي جذرت الحركة الاسلامية كانت هي الثانويات حيث ظهرت حركة التحرير الاسلامية «وكان اسمها الاول» ومن اوائل الناس فيها الاخوان محمد يوسف محمد وبابكر كرار وميرغني النصري وهذه هي الاسماء البارزة التي كانت فيها وآخرون. الجيل الثالث فيه كمال حاج يوسف وعثمان خالد مضوي واحمد عبدالرحمن محمد وهذا هو الجيل الذي اتصلنا به، ولم يكن لدينا اتصال بالجيل الاول.
? من الذي اتصل بك أولاً ومن بعث لك؟
– في الثانوي شخص د. عثمان محمود حسنين اختصاصي النساء والولادة، والاخ حسن محمد ساتي الذي كان مديراً لبنك الشمال، لكن يبدو ان هذا كان مجهوداً ميسراً لانني اخ لعبد الحميد وكان سبقني الى وادي سيدنا وجند في حركة الاخوان وكان منهم، لكن كأنما افترض الاخوان أنني منهم ولم يتصلوا بي وأعتقد الشيوعيون أنني مجند فكنت حراً لفترة.
? لماذا اخترت الاتجاه الإسلامي وأنت في سن مبكرة؟
– والله لا أذكر الآن لماذا اخترته، لأن عملية التجنيد كانت عملية مكثفة جداً – ونحن شاركنا فيها لاحقاً- يتصلون بك ويعطونك المبررات ويقولون لك: (نحن مسلمون حقيقة ويفترض أن تنهض حركة الإسلام من جديد)، لكن أهم الأشياء التي كانوا يحاولون إقناع الناس بها هي لماذا تدخل في تنظيم للقيام بذلك؟ فلا بد أن تدخل الى تنظيم. (لأن كثيراً من الناس الذين كنا نتحدث معهم لاحقاً بعد أن أصبحنا نحن أنفسنا نجند – حسب تعبير المجندين- كانوا يقولون لنا: (طيب ما أنا مسلم، إنت عارف إنو أنا مسلم وبصلي..) فنقول لهم: لا.. نحن نريدك أن تفعل شيئاً أكثر من ذلك شيئاً فعالاً ونحتاح لجمع قوانا وموادرنا ومساعدة بعضنا تنظيمياً، بمعنى أن التجنيد كمان أولاً ترويجاً لفكرة التنظيم السياسي، وثانياً «وهذه سلبية» وهي أن هناك حركة شيوعية ملحدة وأن الجوانب السلبية للحركة الشيوعية أنها كانت ملحدة ولا أخلاقية وتفسد الشباب.. وللأسف كانت بعض ملامح هذا الأمر صحيحة، وكانوا يحاولون خلق جو تمرد أخلاقي يتمثل في السجائر مثلاً وهو أن الشخص بمجرد دخوله حركة الجبهة الديمقراطية لابد أن يخرج ويدخن السجائر وخلق جو غناء. وكان الغناء نفسه نوعاً من التمرد الأخلاقي رغم أننا كنا نستمتع به جداً»، لكن كان هناك خيط سري تصنعه الحركة الشيوعية «وأنا متأكد أنه كان منظماً» لأنه كان حتى لبس البنطلون داخل الحركة كنوع من التمرد «وكان مفروضاً أن نلبس الأردية»، وهذا هو الخط الثاني للتجنيد وهو أن الحركة الشيوعية مفسدة أخلاقياً وملحدة دينياً وتثير أفكاراً مضادة للإسلام ولذلك كان أبرز كتابين يعرضان علينا في التجنيد هما كتاب محمد الغزالي وكتاب محمد قطب اللذين يدحضان شبهات حول الإسلام، وكانت الحركة الشيوعية نفسها في الأوساط الطلابية تعمل على عرض شبهات قديمة حول الإسلام «الرق، زوجات الرسول، انتشار الإسلام بالسيف…» وكان هذا توجه الحركة الشيوعية ووصل الأمر أن كتب كبار مفكري الحركة الإسلامية كتباً مضادة لهذا الأمر، وكان خالد محمد خالد إسلامياً لكنه متمرد جداً وعندما كتب كتابه «من هنا نبدأ» أيضاً كانت فيه هذه النغمة، فرد عليه محمد الغزالي «من هنا نعلم».. وكان هناك جو فكري ثوري عنيف سبقته محاولة الشيوعيين إثارة الغبار الشديد حول الفكرة الإسلامية لإبعاد الناس عنها ولم تكن هناك دعاية إيجابية للشيوعيين لأنه لم يكن لديهم مفكرون من هذا النوع، وكانت حتى الكتب التي نبحث عنها ونستلفها منهم عن الشيوعية ونقرأها مترجمة عن الفرنسية الى العربية وصاحبها هو المفكر الذي تحول الى الإسلام أخيراً «روجيه قارودي» وكان هذا شيئاً مدهشاً جداً، ولغتها كانت رهيبة جداً مثل لغة الأناجيل القديمة ركيكة وغير مفهومة، لكن دعوة الشيوعي الرئيسية كانت مصممة ببساطة كبيرة جداً ومغرية جداً، وهذا خلق لنا محنة شديدة في كيفية إيجادنا لبرنامج فكري خاصة في النواحي الاقتصادية، وكانت واحدة من المحن التي تواجهنا في التجنيد وهي أننا ليس لدينا برنامج فكري سياسي إسلامي بينما الشيوعيون لديهم هذا البرنامج مبسط جداً، أما أساسيات النظرية «فكما قلت لك» فكانت مرجعيتهم كتب «روجيه قارودي» وكانت ركيكة جداً وترجمتها سيئة جداً، ولا أعتقد أنهم كانوا يعتمدون عليها إطلاقاً وكانوا يعتمدون فقط على هذه الخطوط التي ذكرتها لك من إثارة الغبار حول الإسلام بالشبهات وإثارة جو من التفلت الأخلاقي، وقد ظهر مثلاً في حنتوب كانوا يثيرون الحركة الإسلامية بظواهر أدت الى اشتباكات وعنف ومنذ وقت مبكر جداً، والاخوان لم يستطيعوا محاربتها إلا بضرب رموز التفلت الأخلاقي وتخويفهم، وظهر في الأحفاد وكنا نعرف أناساً بعينهم مثل المرحوم محمود ومثل العبيد سويكت وهؤلاء وصل عنفهم حتى لبعض الأساتذة الذين كانوا يحاولون دعم هذا التيار الأخلاقي المتلفت.. وهذه أورثت النزعة العنيفة التي بدأت منذ ذلك الوقت وكانت رد فعل على هذا التفلت. وكانت خطوطهم خطوطاً عملية فكرية في الحد الذي ذكرته وهو إثارة الشبهات، وكانت خطوطنا نحن دفاعية وهي أن الإسلام هو الحل لكن بدون أن يكون لدينا نظرية واضحة جداً «وهذه أدخلتنا في محنة شديدة جداً» وكان كثير من الاخوان يسألون: نحن ليس لدينا نظرية إسلامية؟.. وعندنا نذهب نجد كلاماً أخلاقياً عن العدالة وغيرها، وحتى أول الكتب التي ظهرت كتب أخلاقية «العدالة الاجتماعية في الإسلام» لسيد قطب و«الاشتراكية في الإسلام» للسباعي من سوريا، لكن ليس هناك نظرية، وأنا لاحقاً «طبعاً لم نكتشف نظرية إسلامية» لكن اكتشفنا أن هذه هي الحقيقة الصحيحة. أن التنظيم الاجتماعي الاقتصادي هو الذي يصنعه الناس نتيجة للمبادئ، وأن الأفضل أن يكون لديك خط مبادئ أخلاقية وموجهات، وهذا هو الذي يجعل الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان، أنه ليس لديه نموذج، لأن النموذج الشيوعي الذي ادعوا أنه كان موجوداً وطبق دولة العمال والبوليتاريا اتضح أنه كان نموذجاً مزيفاً ولم يكن نموذج عمال، وعندما طُبِّق إنهار. وهو أن تأخذ الموارد كلها وتعطيها الدولة وهي التي تخطط وتتحكم وهذه «قصة طويلة جداً، فالنموذج كان مغرياً ولامعاً جداً فكرياً، ونحن لم يكن لدينا ذلك، ولكن اتضح لي لاحقاً – بعد فترة طويلة جداً في حياتي- أنها كانت موجودة وسهلة لكن لم نكن نستطيع فهمها وشرحها، ألا يكون لديك نموذج.
صحيفة الراي العام