الترابي ونظارة زرقاء اليمامة!
وعثمان ميرغني يستمع للشيخ الترابي في جلسة مسائية بمنزله قبل يومين، استمرت لعدة ساعات، والشيخ يردد ويكرر جملة واحدة: (إني أرى أشجاراً تتحرك)!
والشيخ الترابي وهو يستلف نظارة زرقاء اليمامة، يدع الأمر على الغموض ولا يحدد نوع الشجر ولا منطلقه ولا وجهته القاصدة!
ودكتور الترابي لا يحدد لعثمان ومن معه، إن كان ما يرى مصدره التحليلات والتوقعات، أم هي معلومات موثوق من صحتها؟!
ولم ينقل لنا الباشمهندس عثمان ميرغني في عموده المقروء، ما خرج به من انطباع.. هل كان الشيخ يتحدث بلسان التحذير والتنبيه، أم بصوت الشامتين الذين ينتظرون جثث الأعداء على ضفة النهر؟!
والحديث بين الترابي وعثمان من الواضح أنه مترتب على التغييرات القيادية الأخيرة، التي تمت في أجهزة الدولة وفي هياكل الحزب.
منذ فترة ليست بالقصيرة، ظل الترابي ملتزماً صمتاً محيراً ومريباً!
مرّت كثير من الأحداث الكبار، ولم تحظ بتعليقات الرجل ولا بتوقيعاته على هامش الورق!
الذين يعرفون الرجل حق معرفته، يقولون: حينما يصمت الشيخ فلا بد أنه في انتظار فعل ما أعلى صوتاً من الأقوال!
أكرر ما قلته من قبل:
مقدرة خاصة تميز الدكتور حسن الترابي عن غيره من السياسيين، وهي قدرته على تغيير مجريات الملعب السياسي عبر “اللغة” والقذف بالكرة يمنة ويسرة.
كلمات معدودة في تصريحات صحفية أو بندوة جماهيرية أو في حديث جانبي هامس، عادة ما تمهد لحدث كبير، أو تقدم لمتغير جذري أو تختزل تجربة ماضية مزدحمة بالتفاصيل.
«فاللغة» في القاموس السياسي للترابي، ليست أداة تواصل واتصال فحسب، بل هي سلاح له قدرة التغيير والانقلاب مع الأخذ بكل محاذير القانون.
وبالرصد والمتابعة لتصريحات الترابي الصحفية والجماهيرية منها، تتضح طرائقه في استخدام اللغة في التمهيد والتفسير والاختزال.
دخل الرجل الملعب السياسي في العام 1964، عبر نوافذ اللغة في ندوة سياسية أعقبتها أحداث أكتوبر الشهيرة.
وفي أواخر الثمانينيات، وقبل أشهر من يونيو 89، وبعد إخراج الجبهة الإسلامية من حكومة الوفاق، وفي الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم، نعى الترابي للحضور الديمقراطية الثالثة!
وتصريحات عابرة أطلقها في 1998، عن ظهور نسبة (9%) من الفساد في تجربة الإنقاذ، كانت تمهد لانطلاق ماراثون الصراع بين القصر والمنشية، والذي انتهى إلى الفراق بغير إحسان.
ولا تزال عبارة (اذهب إلى القصر رئيساً، وسأذهب إلى السجن حبيساً)؛ أكثر العبارات قدرة على تلخيص علاقة الجبهة الإسلامية بـ 30 يونيو، وأكثرها مقدرة على اختزال حالة الغيظ التي اعتملت في صدر الشيخ، عندما أُغلق في وجهه البرلمان، وسُحبت مفاتيح القرار من بين أصابعه.
وفي فبراير 2001، وبصالونه بالمنشية، عقب توقيع مذكرة تفاهم جنيف، بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي، واندلاع تظاهرات بالفاشر، وموت امرأة تحت الأرجل؛ كان الترابي يتحدث إلينا ونحن مجموعة من الصحافيين، بأن التغيير سيأتي للحكومة من دارفور لا الخرطوم!
وقبل أحداث أم درمان وهجوم خليل إبراهيم بساعات، كانت مانشيتات الصحف بالخرطوم، تنقل من سنار رفض الترابي لتغيير النظام بالقوة.. وقالوا وقتها إن الرجل يؤشر شمالاً ويلف يميناً!
ثمة أكثر من شاهد إضافي يوضح كيف أن الدكتور حسن الترابي ظل دوماً يستعين “باللغة”، على أوجه مختلفة في التمهيد والتفسير والتغيير والانقلاب، تعينه في ذلك صلات وثيقة بالدراما السياسية القادرة دوماً على جذب الانتباه، وسرقة عدسة الكاميرا في الوقت المناسب.
[/JUSTIFY]
العين الثالثة – ضياء الدين بلال
صحيفة السوداني