د. ناهد قرناص: حتى (السكران)، يظل مواطناً سودانياً، ولا يُخرجه السُكر من حقوق المواطنة، ويجب على الشرطة حمايته
في مدينة عطبرة، كانت أقسام الشرطة في كل الأحياء، يتم اللجوء إليها في أشياء ليست من صميم عملهم، ولكن العاملين عليها من ضباط جنود، يؤدونها بابتسامة عريضة. كان أبي رحمه الله، يرسلنا أنا وأخي، وقد كنا صغاراً، صباح يوم السفر إلى وادي حلفا، ويطلب منا أن نذهب إلى قسم الشرطة كي نتأكد من موعد وصول القطار إلى عطبرة، عبر الإتصال الهاتفي، لأن الهواتف وقتها كانت قليلة، وحصراً على المؤسسات الرسمية فقط.
كنا ننتظر ذلك (المرسال) بشوق، لنذهب أو بالأحرى نجري، إلى هناك، ونقول للضابط المناوب: (بابا قال ليك أضرب لينا تلفون للمحطة، شوف قطر الاكسبريس جاي متين)!
يفعل الضابط ذلك دون تردد، ويأخذ ورقة وقلماً ويكتب لنا: (يصل قطار الاكسبريس إلى عطبرة الساعة كذا)، بل يخرج معنا إلى الطريق ليضمن اننا قطعنا الشارع بسلام.
كان الناس يستعينون بالشرطي ليتصل بسيارة الإسعاف، المحطة، النجدة و..(يدك معانا يا جنابو عشان بيت فلان حيطتو وقعت)، ومواقف كثيرة لو بحثنا عنها في الذاكرة، لعرفنا ان لهذا الجهاز الأمني المجتمعي المهم، مكانته في قلوبنا، وأن أفرداه الذين يقضون عمرهم يحرسون أملاكنا ويسهرون على أرواحنا، لهم هيبتهم التي لا تهزها آراء بدأت تطفو على السطح، عقب المحاكمة الأخيرة لأحد منسوبي الشرطة.
فكّرت في كتابة هذا المقال، عندما تداولت الوسائط الاجتماعية خطاباً حزيناً مجهول المصدر، عنوانه: (لماذا تكرهونهم؟)، عدّد فيه صاحب الخطاب، الخدمات كافة التي تقدمها الشرطة لنا، وأفاض في لوم بعض الفئات لهجمتها الشرسة على منسوبهم الذي قضت المحكمة بإعدامه، وبالطبع هناك درجات أخرى للتقاضي واستئناف القضية، وليس من حق أحد التأثير عليها بالتعليق أو اراقة المشاعر.
لا أحد يكره الشرطة يا أخي، ولو كانت غضبة تصوّرتها، فربما جاءت مساوية لمقدار الحب الذي يكنه هذا الشعب للشرطة، ولحجم التقدير لكل ما تفعلونه من أجلهم، ذلك الشرطي الذي يقف في حرّ الشمس ينظم حركة السير، والذي يبيت الليالي بعيداً عن أهله لأنه (سادي خدمة)، ذلك الذي يهرع إلى مكان الحادث ليلقي القبض على أحد الجناة، معرضاً نفسه للخطر.
كل هؤلاء، يقفزون للذاكرة فور نطق كلمة (شرطي)، لا أحد يكره الشرطة، ولكن من حقنا أيضاً أن نثور ونغضب، عندما يتجاوز رجل الشرطة القانون، ليحمي به نفسه أمام العزّل، مهما كان تصنيفه لهم.
حتى (السكران)، يظل مواطناً سودانياً، ولا يُخرجه السُكر من حقوق المواطنة، ويجب على الشرطة حمايته حتى تعرضه على المحاكمة العادلة لخرقه القانون، فما بالك بحقوق من هم بكامل وعيهم؟!
السؤال الذي يجب طرحه دون وجل، وبعيداً عن مسار قضية لا زلت أمام درجات التقاضي: لماذا لا يحمل الشرطي عصا كهربائية أو مسدساً يطلق إبراً مخدرة لتعطيل حركة المتهمين المنفلتين، ومن ثمّ يسهل اقتيادهم لأقسام الشرطة والتحقيق معهم؟!
أعتقد – وبعض الإعتقاد يمكن الإصغاء إليه – ان الشرطة يجب أن تناقش مثل هذه الأفكار عبر ورش ودراسات متخصصة، لأن المواقف التي يتعرض لها أفرادها أثناء أدائهم لمهامهم، نعلم جلياً قسوتها، ووجود الذخيرة الحية في يد الشرطي دون إحكام الضوابط، ربما تجعله يسارع إلى استخدامها متجاوزاً الحد المسموح به قانوناً، فتكون النتيجة وخيمة.
أن يكتب أحدنا منوّهاً لما يعتبره تقصيراً من (فرد) في مؤسسة عريضة ومحترمة مثل الشرطة السودانية، لا يعني ذلك كراهيته لواحدة من أقدس المؤسسات الأمنية والمجتمعية، وأكثرها احتراماً والتصاقاً مع الناس وخدمة لهم.
لصاحب الرسالة الحزينة مجهولة المصدر، والمؤثرة جداً، أقول:
لا أحد يكره الشرطة، بل نبادلها حباً بحب، واحتراماً بإحترام، وتقديراً لتضحياتهم التي يبذلونها في حراسة أرواحنا وممتلكاتنا. ومعاً نغني مع ميرغني المأمون وأحمد حسن جمعة: (من الشعب ألف تحية لرجال الشرطة السودانية).
وصباحكم خير
د. ناهد قرناص