حزب الأمة والصراعات الحادة وفقدان البوصلة
وإن حزب الأمة الإصلاح والتجديد الذي أعلن عن قيامه في مؤتمر سوبا قد انقسم الآن لستة أحزاب أو بالأحري لستة شظايا حزبية صغيرة، وقطعاً إنها تضم بعض أصحاب القدرات والتميز في العطاء على قلتهم، وكل ما يرجوه المؤتمر الوطني من وجودهم هو أن يردد أن حزب الأمة مشارك في السلطة. أما حزب الأمة الأصل فقد ظل يعارض ويهادن أحياناً وما إنفك رئيسه يفاوض النظام الحاكم بين الفينة والأخرى تحت مظلات ومسميات مختلفة، ومن الواضح أن النظام يتعامل معه بلطف لأنه يقود معارضة لطيفة مهذبة رغم أنه أحياناً يدلي بتعليقات ساخرة تتخللها أمثال وحكم شعبية مضحكة.
وقد أعلن الإمام الصادق المهدي أنه أول من نادى بالحوار الوطني في مائدة مستديرة تضم الجميع، ويرى أنه الأحق بأن يكون عراب هذا الحوار، ولكن العبرة بمخرجات ملتقى الحوار إذا تواصل حتى نهايته، ولكن بدأ جلياً لكل المراقبين أن البون شاسع واسع بين الطرفين، لأن حزب المؤتمر الوطني يريد توسيع دائرة المشاركين معه في السلطة، ويريد أن تنتقل الرئاسة من التأييد الحزبي للالتفاف والتأييد القومي، أما حزب الأمة فقد ظل يردد أنه يريد القضاء على دولة الحزب الواحد على حد تعبيره لتحل محلها دولة الجميع وينادي بإقامة حكومة قومية انتقالية تماثل الحكومتين الانتقاليتين اللتين أعقبتا ثورة أكتوبر عام 1964م وانتفاضة رجب أبريل عام 1985م، ويطالب الحكومة المشار إليها بإجراء انتخابات عامة، ومن الواضح أن الطرفين بهذه الطريقة يسيران في خطين متوازيين، ولذلك ذهب السيد رئيس حزب الأمة والتقي بقادة الجبهة الثورية ووقع معهم اتفاقاً اطلق عليه اسم اعلان باريس، ومن المؤكد أنه لا يسعى للإخلال بالأمن القومي، ولكنه كان فقط يريد أن يقوي موقفه التفاوضي في ملتقى الحوار الوطني لتستجيب الحكومة لمطالبه، أي أنه اراد أن يتخذ محطته الباريسية معبراً للضغط للوصول لمراميه في الداخل، أما القلة المتنفذة في قطاع الشمال فإنها أرادت بذلك الإعلان أن تستغل اسم الإمام الصادق المهدي وحزب الأمة والأنصار لتحصل على مزيد من الدعم المالي واللوجستي من الخواجات الذين يضعون آمالاً عريضة على القلة المتنفذة في قطاع الشمال، وتسعى القوى الأجنبية الغربية للضغط على الحكومة لتوقع اتفاقاً مع قطاع الشمال يقتسم بموجبه السلطة معها ليكون هذا القطاع شوكة حوت في حلق النظام وخنجراً مسموماً في خاصرة الإنقاذ، ليكون برنامج السودان الجديد العلماني الذي يدعمه ويرعاه الخواجات هو الترياق المضاد للمشروع الحضاري الذي طرحته الإنقاذ منذ مجيئها.
وعندما قرر الخواجات تكوين ودعم الجبهة الثورية أرادوا أن تكون الحركات الدارفورية المتمردة هي مجرد مقطورة تجرها قاطرة قطاع الشمال، رغم أن قيادات الحركات الدارفورية هم أكثر تأهيلاً علمياً من قادة الفئة المتنفذة حالياً في قطاع الشمال، وأن عدد المتمردين الدارفوريين أكبر في الميدان، وأراد الخواجات وقادة قطاع الشمال استغلالهم في حرب العصابات في دارفور وفي الجنوب وفي كردفان كما حدث في أبو كرشولة على سبيل المثال.
ومن المفارقات أن الحكومة تفاوض الآن في أديس أبابا قادة الجبهة الثورية وقطاع الشمال الموقعين على اعلان باريس، وأصدرت قبل فترة تصريحاً طلبت فيه من الإمام الصادق المهدي أن يتبرأ من إعلان باريس إذا أراد العودة إلى الوطن، ولـعل بعضهم يحبذون أن يظل سيادته بعيداً عن الوطن في الأشهر القادمة. ولكن يرى كثير من المراقبين أن على السيد الإمام أن يعود في أقرب طائرة متجهة لمطار الخرطوم، وإذا وصل لمنزله سالماً فهذا هو المطلوب، ولكن إذا رأت القيادة والأجهزة المختصة وفق تقديراتها أن تتحفظ عليه فإنه سيجد عطف مؤيديه ووجوده بمعتقل أمن داخل وطنه أفضل له من المنفى الإضطراري في الخارج.
والمؤكد أن سيادته في أي مؤتمر عام يعقده حزبه سيفوز بالرئاسة بلا منافس وفي كل مكان يحل به يجد استقبالات حارة، ولكن لأن الحزب بلا سلطة وهو بعيد عن الحكم فإنه لا يستطيع تقديم أية خدمات أو المساهمة في التنمية المحلية في أية منطقة يزورها، وتغدو تلك الاستقبالات مجرد احتفالات تنتهي بانتهاء المناسبة، وإزاء ذلك ينبغي أن يطرح سؤال صريح فحواه هل من مصلحة القواعد أن يظل الحزب في معارضة مجهولة المصير أم لا؟ ولو سلمنا بأن الأوضاع قد تغيرت فهل تؤول مقاليد الأمور للحزب وحده أم ستنازعه على ذلك قوى حزبية أخرى وحملة سلاح، وهل يملك الحزب في ظروفه الراهنة القدرات الكافية لتسيير دفة أمور البلاد بكل تعقيداتها الأمنية والاقتصادية مع مجابهة تحرشات الضغوط الأجنبية وصعوبة أوضاع المواطنين المعيشية؟ أم أن «الفي البر عوام»، والغريب العجيب أن الصحف تعج بأخبار المعارك الهامشية التي تدور بين قيادات الحزب في غير معترك، ومهما يكن فإن الحزب معذور لأنه ظل بعيداً عن السلطة لأمد طويل، وإزاء ذلك يتساءل البعض لماذا يحرم الحزب جماهيره وقواعده العظيمة الأصيلة من المشاركة من أجل خدمة الوطن والعقيدة والارتقاء بمناطقهم والحزب يعج بكفاءات كثيرة معطلة، وهي قادرة على العمل والعطاء والبذل مع اتسامها بالصدق والنزاهة والورع.
والمشاركة لا عيب فيها إذا كانت من أجل الصالح العام لا من أجل المصالح الذاتية. وعلى سبيل المثال فإن الجميع يشهدون بأن العميد عبد الرحمن المهدي مساعد رئيس الجمهورية يؤدي ما يوكل إليه من مهام بكل اقتدار وإخلاص، وأن الفريق شرطة صديق إسماعيل قد خدم الوطن في مجال تخصصه وعين معتمداً في مرحلة من المراحل، فما العيب في ذلك طالما أنه لم يكن فاسداً أو عميلاً لأية جهة أجنبية، أما دكتور ابراهيم الأمين على سبيل المثال فهو من صفوة المثقفين الموسوعيين، وعرف بالتهذيب والرقي في تعامله مع الآخرين من المتفقين معه في الرأي أو المختلفين، وهو من غلاة الرافضين للمشاركة، ولكن ماذا يضيره لو اقتضت الضرورة الوطنية أن يحدث تقارب بين القوى الوطنية الأصيلة ويعين علي سبيل المثال وزيراً للصحة الاتحادية؟ فهل في هذا نفع للوطن وللكيان الذي ينتمي اليه أم فيه ضرر؟ وأن هناك كثيراً من الكفاءات المعطلة، فلماذا تحرم من العطاء والبلاء من أجل الوطن من خلال العمل التنفيذي والتشريعي على كل المستويات؟ ولماذا لا تشترك القواعد وتنخرط في اللجان الشعبية ولجان الوحدات الإدارية والمجالس التشريعية للمحليات صعوداً لأعلى؟ وهل من الأجدى أن يظل الحزب في معارضة مجهولة المصير لسنين قد يتطاول أمدها؟ أم الأجدى المشاركة من أجل البناء والتعمير دون ذيلية أو تبعية لأية جهة أخرى؟ أما الإمام المفكر فإنه يمكن أن يكون رمزاً قومياً مقدراً عند الحاكمين والمعارضين على حد سواء دون حاجة لعراك حول المواقع، لأنه أضحى فوق المواقع الرسمية، ويمكن أن يؤدي دوراً مفيداً للوطن دون حاجة لاعتلاء موقع رسمي.
صديق البادي
صحيفة الإنتباهة
ت.أ