تحقيقات وتقارير

(الشائعات)… أسلحة خفيفة لا تعرف الرحمة..!


[JUSTIFY]امتلأت أحشاء المواقع الإسفيرية بدفق ملحوظ من الشائعات التي تنوعت ما بين السياسي والاجتماعي والأمني، وحتى الدعابة زادت حدتها خلال الفترة الماضية من العام الحالي 2014، مما خلق حالة من التساؤلات في الشارع العام عن كنه ودواعي تلك الظاهرة التي يعرفها “ابن منظور” في معجمه (لسان العرب) بأنها من (شاع الخبر في الناس يشيع شيعاً وشيعاناً ومشاعاً وشيعوعة، فهو شائع: انتشر وافترق وذاع وظهر). بينما يختصر تعريف الكلمة (الشائعة) اصطلاحا بأنها تعنى انتشار الأمر وذيوعه بين الناس دون أن يستند إلى دليل، أو يُعرف له مصدر.
الرئيس أمام فوهة الشائعات..
وترتبط الإشاعة بالتشويق والإثارة وتفتقر في الغالب للمصدر الموثوق الذي يحمل أدلة على صحة الأخبار، كما تتنوع أهدافها وفقاً لهدف مطلقها وما يريد تحقيقه، مما يصعب الإحاطة به، ولكن يشار إلى أن منها أهدافاً سياسية، اجتماعية، أمنية ومادية، وربما تأخذ شكلاً من أشكال تصفية الحسابات أو الدعابة .
ولعل أبرز ما أخرجته الأسافير في ما يختص بالحالة السودانية هو مزاعم وفاة عدد من رموز وقيادات الدولة طالت حتى رئيس الجمهورية “عمر البشير”، الذي ظلت إشاعة مرضه أو وفاته تتكرر بشكل مستمر مع حالات اختفائه من وسائل الإعلام أو تفجر الأحداث السياسية خاصة الدولية منها والإقليمية، وكان آخرها ما أشيع عن وفاته منتصف مايو الماضي أثناء إجرائه عملية تغيير (ركبة) بمستشفى (ريال كير) بالخرطوم، ولكن سرعان ما تبددت الشائعة حينما أوردت بعض وسائل الإعلام أخباراً عن لقاءات للرئيس بعدد من مسؤولي الدولة.
لتعود الشائعة لمسرح الفعل مرة أخرى، بما تواتر عن إقالة المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية “عماد سيد أحمد”، والناطق باسم القوات المسلحة العقيد “الصوارمي خالد سعد” بعيد حادثة الاعتداء على حرس القصر الجمهوري ومقتل اثنين من عناصره ومنفذ الاعتداء في الثامن من نوفمبر الجاري، وقول “الصوارمي” حينها في بيان له إن المعتدي “مختلٌّ عقليَّاً”، وأنه كان يحمل سلاحاً أبيضَ (سيف) طعن به الحارس وأرداه قتيلاً، ثم استولى على بندقية الحارس المقتول وأطلق النار على حرس التشريفة أمام بوابة القصر وقتل أحدهم، فتعاملت الخدمة العسكرية بالقصر معه وأسقطته صريعاً.
والآن، طفت على السطح شائعة أطلقها موقع (راديو دبنقا) الإخباري المعروف بمعارضته للنظام القائم، تتحدث عن اغتصاب القوات المسلحة لـ(200) فتاة من قرية “تابت” بولاية شمال دارفور، حركت بموجبها البعثة الأممية المشتركة بدارفور (يوناميد) وفداً لاستقصاء الأمر، وعاد الوفد ليؤكد أنه لم يجد أثراً لما تناوله (راديو دبنقا)؛ مما دفع الأمم المتحدة للتحريض على إعادة التحقيق في القضية ومغادرة وفد (اليوناميد) مرة ثانية لـ (تابت) للتثبت من الأمر.
وخلال الشهور الثلاثة الأخيرة طغت شائعات وفاة نجوم المجتمع على ما سواها من الأخبار في المواقع الإسفيرية بل إن بعضها أخذ طابع ما عُرف بالشائعة الغائصة والتي تروج في أول الأمر ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظروف بالظهور، كحالة إشاعة وفاة الفنان “النور الجيلاني” التي تكررت أكثر من مرة، وانقطع سبيلها بظهور (الجيلاني) على وسائل الإعلام (بشحمه ولحمه).
وسبق ذلك إشاعة وفاة الفنان “محمد الأمين” والفنان “عبد الكريم الكابلي” الذي طار إلى الولايات المتحدة الأمريكية مستشفياً، والفنانة “عابدة الشيخ”، بالإضافة إلى ما راج أمس (الاثنين) الماضي عن وفاة مقدم برنامج (أغاني وأغاني) على فضائية (النيل الأزرق) الشاعر “السر قدور”، وعن تقدم المدير العام للهيئة القومية للإذاعة والتلفزيون “السمؤال خلف الله القريش” باستقالته وهو الذي لم يمضِ على تعيينه في المنصب شهران، ذلك الأمر الذي نفاه في تعميم سوَّد به صحف الخرطوم.
انحراف الظاهرة ..
والمفارقة انحراف الظاهرة بتسريب معلومات صحيحة عن أحداث حقيقية لكنها (قديمة) حدثت في وقت سابق، وإطلاقها في توقيت يساعد على انتشارها والميل إلى تصديقها كحادثة نشر صور لـ (18) من السودانيين قالوا إن شرطة إمارة دبي بثتها منتصف أغسطس الماضي وتمثل قائمة بأشهر وأخطر النشالين في إمارة دبي مع تحذيرات منهم، بيد أن وزارة الخارجية سرعان ما أوضحت أن القائمة تعود للعام 2010، وتزامن نشر الصور مع تواتر أنباء عن تدهور العلاقة مع دول الإمارات عطفاً على ملف العلاقات السودانية الإيرانية.
يضاف إلى ذلك نشر قائمة نهاية أكتوبر الماضي بأسماء عدد من الشخصيات القيادية بالمؤتمر الوطني في سياق خبر مفاده أنه تم تعيينهم ولاة جددا بسبع ولايات أبرزها النيل الأبيض، الشمالية وجنوب دارفور ، بينما تأكد بعد ذلك أن القائمة تعود أيضاً للعام 2010 وأن المذكورين كان قد تم تعيينهم لفترة مؤقتة حينها.
ويبدو أن الجهة التي أطلقت تلك الشائعة استفادت من جو التوقعات والتكهنات الذي بسط أرجله على سجادة الإرهاصات بقرار رئاسي مرتقب بإعفاء عدد من الولاة من مناصبهم على خلفية انعقاد المؤتمرات العامة لحزب المؤتمر الوطني بالولايات ورفع أسماء مرشحي (الوطني) لرئاسة الحزب بالولاية ورئاسة حكومة الولاية في الانتخابات العامة المقبلة.
السياسة والمجتمع أس الداء..
ومعلوم أن الأجهزة الحكومية ذات الطابع الأمني أو المؤسسات الإستراتيجية والسياسية كثيراً ما تجنح لفتح الباب للشائعة لاستقراء مآلات المستقبل لقرار أو فعل مرتقب على الصعيد المحلي أو الإقليمى أو الدولي في مختلف المجالات.
ويرجح البعض أسباب انتشار الشائعة في أساسه لغياب المعلومة أو عدم وضوحها وندرة الأخبار بالنسبة للشعب. كما أنها تنتشر بصورة أكبر في المجتمعات غير المتعلمة لسهولة انطلاء الأكاذيب عليهم، وقلما يسألون عن مصدر لتوثيق ما يتداول من معلومات، سيما مع انتشار وسائل الاتصالات الحديثة التي تُعد سبباً مهماً في سريانها مسرى النار في الهشيم.
وصعب على المختصين والباحثين في لجج الشائعة وضع تصنيف عام لها، ولكن أبرز ما استطاعوا التوافق عليه ـ بحسب دراسات، ما عُرف بالشائعة الزاحفة وهي التي تروج ببطء ويتم تناقلها سراً وهي في الغالب تمس النظم الحاكمة وتستهدفها بأشكال عدة، وهناك الشائعات الغائصة وهي التي تروج في أول الأمر ثم تغوص تحت السطح لتظهر مرة أخرى عندما تتهيأ لها الظروف بالظهور وتلك تروج فى الحروبات، ثم شائعة العنف التي تروج في أغلبها للحوادث والكوارث والحروب .
ولكنَّ خبيراً أمنياً- فضل حجب اسمه- قسّم الشائعات المنتشرة حالياً بأنها سياسية واجتماعية. وقال إن الشائعة السياسية تتأثر بعدة عوامل أهمها مصادر المعلومات ووسائط النقل والمتوفر من المعلومات. وفي ما يتعلق بمصدر المعلومة ذكر الخبير الأمني أن القاعدة الرائجة أنه كلما قلَّ مقدار المصداقية والشفافية في العرض وحصار مصادر المعلومات كانت هناك بيئة مواتية لظهور الشائعة. ورأى أن المواقع الإسفيرية أتاحت فرصة يتحلل فيها ناشر الخبر من المسؤولية والمحاسبة.
ولفت الخبير الأمني في حديثه لـ (المجهر) إلى أن عدد العاملين في نقل الأخبار أكثر مما سماه بالمعروض، وأن المنتج أقل بكثير من المطلوب ، لافتا إلى أن كثافة السياسيين والأحزاب السياسية أحد أسباب انتشار الشائعة في ظل ما سماه غياب الحراك السياسي. وقال: (لا يوجد نشاط سياسي ولا حركة في الدولة لإنتاج أخبار حقيقية لذلك يلجأ البعض إما للتضخيم أو عرض غير الصالح من الأخبار أو محاولات إحياء القديم). وأضاف: (في النهاية نريد مادة خبرية غير متوفرة)، لافتاً إلى كثافة السياسيين والأحزاب.
ونبه الخبير الأمني إلى أن ارتباط الشائعة بالمناخ السياسي. وقال: (مجرد دخول الرئيس للمستشفى فإن الجانب الآخر يطلق العنان لتمنياته ورغباته ، وأن الأمر يظل في حيز التمني). وعلق: (إذا جلست لهؤلاء فلن تجد عندهم أسباباً موضوعية لما فعلوه).
أما في ما يتعلق بالشائعات الاجتماعية من حالات طلاق وزواج ووفاة للفنانين ورموز المجتمع، رمى الخبير الأمني بالمسؤولية في وجه ثقافة المجتمع التي قال إنها المسؤول الأول عن انتشار الشائعات، وعلق: (الناس تميل للثرثرة وتتبع أخبار الآخرين مهما صغر شأنهم).
الشائعة .. سلاح المداعبة والموت..
ويبدو أن ذاكرة التاريخ مليئة بالأحداث في مكانها الجغرافي محلياً كانت أو إقليمية أو دولية، التي غالبا ما تؤطر إلى أن استخدام الشائعة يمكن أن يكون سلاحاً فتاكاً يعصف باستقرار المجتمعات ويقضي عليها في أحايين كثيرة .
المختص في الشائعات “الرشيد جادين”، قال إن الشائعة قديمة قدم التاريخ ، ونبه إلى أن انتشارها مرتبط بمستوى وعي المجتمعات. وذهب إلى العام (1504 ـ 1450) ق.م في تاريخ مصر القديم ليوضح أن الملك “تحتمس الثالث” استخدم الشائعة في حروبه خاصة حينما أراد فتح (حيفا) في فلسطين، وأن اليونان في تاريخهم القديم (750) ق.م استخدموها للتأثير على العدو، مشيراً إلى حادثة الإفك الشهيرة في صدر الإسلام، لافتاً إلى أن إسرائيل من أكثر الدول استخداماً للشائعات في العالم، وأن جهاز المخابرات الأمريكي له مركز مختص بالشائعة.
“جادين” في حديثه لـ (المجهر) قال إن الشائعة مرتبطة بالأزمات بمختلف أشكالها سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو عسكرية، مشيراً إلى أنها انتشرت في العام الحالي 2014 على نحو غير مسبوق، مؤكداً خطورة الشائعات على المجتمعات، واصفاً إياها بالأسلحة الفتاكة. وقال (استخدام الشائعة في العنف الطائفي أو القبلي أو الدولي يجعل منها سلاحاً فتاكاً دون تكلفة تذكر)، وقال: (هي غير مكلفة فقط تحتاج لعناصر ذات خبرة خاصة التاريخيين منهم لأنهم على دراية بالماضي)،وأضاف: (خاصة المختصين في التاريخ السياسي).
ونبه “الرشيد” إلى أن حصار الشائعة يعد من الصعوبة بمكان. وبرر ذلك بصعوبة الوصول لمطلق الشائعة، لكنه أشار إلى أن تمليك المعلومة الصحيحة بشكل سريع للرأي العام يمنع انتشار الشائعة ويقطع الطريق أمام حدوث أي بلبلة.
وربما لا تشكل الشائعة ذات الطابع الفكاهي المائل للمداعبة أزمة أو خطباً يستوجب الاحتراز والاستعداد منه ولكنها في حالة أن سبيلها واسع ميسر باتجاه الأزمات أو الموت، فإن الأمر يتطلب الحذر والحيطة وإفراغ الشائعة من محتواها بفتح أبوب الإعلام على مصراعيها للحقيقة المجردة بوصفها ـ بحسب المختصين ـ الدواء الناجع للشائعة.

المجهر السياسي
خ.ي[/JUSTIFY]