د. ربـيع عبـد الـعـاطـي عبيد : الأصل فى الأشياء الإباحة والأصل في الذمم البراءة
٭ يتجه بعض العلماء إلى الفتوى بالتحريم، ويغلب على فتواهم فى القضايا التضييق وليس المساحات الواسعة التي تتيح للناس الاختيار، فإما هذا أو ذاك، والذين ينحون هذا النحو يضيقون واسعاً، ويفضلون السجن على الحرية، والقسوة بديلاً للرحمة، وركوب الصعب فى محل التيسير والتسهيل.
٭ وقد تصدر قرارات رئاسية أو وزارية، ويدفع بها إلى الجهات التنفيذية، فتفسر تلك القرارات تفسيراً مبتسراً، ولا ينظر من يفترض فيه وضعها موضع التنفيذ إلا من جانبها المقيد، ولا يضع فى حسابه المساحة الواسعة الواجبة الاعتبار، فإذا كان القرار فيه استثناءات، لا يؤخذ الاستثناء بعمومياته بل يصبح الأصل فى المنح هو المنع، والأصل فى الإباحة رفضاً يتنافى مع ما استدعى إصدار ذلك القرار وهو القبول. وفي الدول الأوروبية لا يتهمك أحدٌ وأنت تملأ استمارة لنيل قرضٍ أو الحصول على استحقاق بأنك كاذب، ولا يشكك الموظف العام في ما كتبت من بيانات، أو يطالبك بغير توقيعك على المستند الذى بموجبه تنال هذا الاستحقاق، ولكن فى بلادنا، انت متهم ومجرم بدءاً، وعليك أن تثبت براءتك، علماً بأن البراءة هى الأصل والتجريم هو الاستثناء. ولقد صدرت توجيهات رئاسية فى وقت سابق بعدم اللجوء للأتاوات والغرامات، من قبل الذين يقفون فى الشوارع، بمختلف أوصافهم، فمنهم من ينتسب للمحليات وآخرون يتبعون لشرطة المرور، وغيرهم من منسوبى إدارات الضرائب والزكاة، وقد تكون لهم شارات تميزهم، أو لا يعرف لهم أحد جهة، وجميعهم يتحصلون على رسوم بمختلف الإيصالات بينها الإيصال المالى «أورنيك 15» أو أرانيك أخرى بألوان مختلفه أو قد تكون «دبلكيت»، لا يدرى أحدٌ فى أى جيب سيستقر هذا الذى حصل بموجبه.
٭ وتحريم الحقوق أصبح أمراً مألوفاً، خاصة عندما يمنعك موظف من حقك الواضح، بناءً على سلطة منحت له بقانون، دون أن يعلم هذا الموظف أنّ القانون أصله من أجل نيل الحقوق وليس لمصادرتها، وأن الذى أوكل إليه تنفيذ القانون عليه أن يجتهد فى تفسيره لصالح المظلوم، وألا يكون القانون من أجل تقنين الظلم ونسف العدالة وزيادة عدد المحرومين، والإسهام فى توسيع ومضاعفة الإلحاف، وتشجيع النّاس على السير فى مسارات الحنق، والاتجاه نحو أخذ الحق باليد بعيداً عن القانون الذى كان يفترض فيه حماية الحقوق.
٭ وعندما تشيع ثقافة البراءة والإباحة، ويستقر في المجتمع عنصر التكريم لإنسانية الإنسان، عندها لا يجرؤ أحدٌ على ارتكاب ذنب هو فى عرف الناس سلوك مستنكر، وفعل مستهجن، فيعاقب فاعله من المجتمع بإجماع ليس له مثيل، ولا تكون هناك حاجة لسلطة مانعة أو قاهرة، لتسوق النّاس سوقاً بالسوط والكرباج نحو أمرٍ قد أوقع صاحبه تلقائياً تحت طائلة عقوبة مشددة يمارسها المجتمع بسلطاته الواسعة، ذلك لأنه هو الأصيل فى ممارسة السلطات.
٭ أما التضييق على النّاس فى أرزاقهم وحركتهم ومراقبة ممتلكاتهم والحد من تصرفاتهم، هو السبيل نحو صناعة الجريمة، وارتكاب المخالفات، ذلك لأن الذى يُمنع ممارسة الحرية، ويوضع فى القفص، يدفعه هذا الوضع نحو الشراسة، ومقاومة من يمنعه ممارسة ما وهب من قبل خالقه، وقد تصل هذه المقاومة إلى استخدام الأظافر الجارحة، ثم تتطور إلى استخدام السلاح الفتاك، وكل ذلك نتيجة لمن يسعون نحو اعتبار الكبت حلاً، والتجريم سبيلاً نحو السلام والاستقرار، وهو ليس كذلك بأية حال.
٭ والكثير من الثورات والحروبات ومظاهر الاضطراب فى الدول والمجتمعات لم تكن إلا عندما يحرم مواطن من إبداء رأيه، أو يحول حائلٌ دون نيل حقه، أو توضع العراقيل أمامه، فلا يجد متكأً يتكئ عليه إلا إذا اتخذ طريقاً معوجاً عندما يغلق عليه الطريق المستقيم.
٭ وهذه كلها لا تحدث فى وجود الفسحات إلتى تسع الجميع، والتكريم الذى يظلل الكبير والصغير، ولا يحتاج عندئذٍ فرد لبذل جهدٍ لمقاومة ظلمٍ حاق به، أو إجراء تضرر منه.
٭ وإباحة الأشياء لا تعنى بالضرورة تجاوز السقوفات والاعتداء على الحرمات، لكنها ينبغي أن تكون هى أصل الثقافة التى يحرص على نشرها الحكام ليصبح المجتمع حاكماً، وليس أولئك الذين يوظفهم الحاكم لتجريم الأبرياء وتحريم الذى أحله الله لكل بنى الإنسان.
«فالأصل فى الأشياء الإباحة والأصل فى الذمم البراءة».
صحيفة الإنتباهة
ت.أ