الضرب الذي يقود إلى الهرب

لا أذكر ان أبي رحمه الله ضربني سوى مرة واحدة، فرغم انه كان رجلا تقليديا ولا يفهم في أصول علم النفس التربوي، وأميّا لم يسمع لا بفرويد ولا فريد الأطرش، ورغم انه كان سريع الانفعال، إلا انه لم يكن يلجأ إلى الضرب ما لم يفض به الكيل، وكانت عقوبة الضرب تسقط عن كل من ينجح في الفرار من أمامه ركضا، لأنه لم يكن من نوع الآباء ذوي النزعات الانتقامية الذين ينصبون الكمائن لعيالهم، ويتربصون بهم لإيقاع العقوبة الجسدية المقررة عليهم،..
ومع هذا أُقر بأنني ضربت كل واحد من عيالي مرات عديدة، فأنا وبرغم النظارات والنظريات موديل قديم في بعض النواحي والسلوكيات، ومازلت اعتقد أن الضرب قد يكون مجديا في بعض الحالات، بشرط ألا يكون قاسيا وعنيفا، ولكنني استهجن قيام بعض الآباء والأمهات بضرب عيالهم حتى تسيل منهم الدماء أو تظهر على أجسامهم كدمات، وخلال فترة عملي مدرسا أيضا كنت أمارس الضرب بحق الطلاب الذين «يسيئون السلوك»، أي الذين يرتبكون أفعالا أو يأتون بأقوال تقع تحت طائلة المادة (1) من قانون الأدب العام، ولا أذكر قط أنني عاقبت طالبا لأن أداءه الأكاديمي ضعيف، حتى بكلمات من نوع «غبي/حمار/ بهيمة»، بل ربما كنت ميالا لمعاقبة الطالب ذي القدرات العالية الذي يهمل دروسه وواجباته الأكاديمية، لأن ذلك يعطيهم الإحساس بأنني أحسن بهم الظن، ومن تجربتي الشخصية فإن أول مدرس تلقيت على يديه دروس اللغة الإنجليزية ولمس عندي حباً لتلك اللغة كان يجلدني على الخطأ الواحد نفس عدد الجلدات التي ينالها من أخطاؤه خمسة أو عشرة، فجعلني ذلك أحس بالتميز، وحرصت على تفادي الخطأ في اختبارات تلك اللغة وأركز على تجويد إلمامي بها، فصارت لاحقا أهم أدواتي لكسب الرزق.
في دولة خليجية، طفش صبي في المرحلة الابتدائية من بيت العائلة، وتم العثور عليه في مشارف مدينة أخرى تبعد نحو 600 كيلومترا عن بلدته الأصلية، وكان أبوه قد ضربه بسبب ضعف تحصيله المدرسي، وبعد عودته إلى البيت قال الصبي انه سيكرر المحاولة، وكان قد سبق له أن هرب إلى مدينة أخرى بعد أن ضربه أبوه،… وبكل ثقة أقول لمثل هذا الأب إن ولده هذا لن يجتاز المرحلة المتوسطة حتى لو استعان بالموساد والسي آي إيه لمراقبته وإرغامه على الاهتمام بدروسه،.. خلاص.. فالدراسة ارتبطت في ذهنه بالتعذيب والإذلال، ولن يتردد في حال تعرضه للضرب المنزلي مرة أخرى في الهرب ولو إلى أفغانستان بل وربما إلى غوانتنامو،.. ومن الخير لكل أب وأم أن يعيش عياله معه تحت سقف واحد وهم ضعيفو التحصيل الأكاديمي، من أن يهربوا إلى عالم قاس لا يرحم الضعفاء والعزل، وهم ضعيفو التحصيل الأكاديمي والحصيلة التربوية، وقد يبدو غريبا ان أتعاطف مع الصبي هذا، الذي قد يكون متلاعبا ومهملا ومتقاعسا، ولكن تبرير تعاطفي هو أنه ليس المسؤول عن أوجه القصور تلك.. فيا أخي الذي ضربت ولدك ثم تألمت عند هروبه ولم تنم حتى عاد إلى البيت، جرّب معه سلاح الترغيب، فالكلمة الطيبة تأتي في غالب الأحوال بنتائج أفضل من الجلد، أما إذا لم ينفع معه الكلام الطيب فلا ترغمه على الذهاب إلى المدرسة، وألحقه بعمل يدوي في بيئة بلا تكييف هواء، وسترى كيف انه سيبحث عن واسطة بعد أعوام قليلة للالتحاق بها فصول مسائية!!
زاوية غائمة: صحيفة اخبار الخليج
[email]jafabbas19@gmail.com[/email] [/SIZE][/JUSTIFY]
