عبد اللطيف البوني

التمكين وبيض المصارين


[JUSTIFY]
التمكين وبيض المصارين

في خطابه الجماهيري بمدينة القضارف في الاسبوع المنصرم قال السيد رئيس الجمهورية إن عهد التمكين وتسييس الوظائف قد انتهى وأصبح الناس في السودان أمام الوظيفة العامة متساوين وليس هناك (أولاد مصارين بيض) وبهذا يكون التمكين قد استغرق ربع قرن من الزمان في بلاد السودان. وربع قرن من الزمان كفيل بإيداع الموظف العام للمعاش الاختياري إذا كان عمره دون الستين. بعبارة أخرى هناك من تقلد الوظيفة العامة في الدولة في فترة التمكين وعليه الآن مغادرتها بالدرب العديل وليس بالدرب التحت.
قبل التمكين كانت الوظيفة العامة نظريا تتحكم فيها قواعد موضوعية أي ليست مفصلة على أي شخص او جهة. بعبارة أخرى المؤهلات الأكاديمية لأي وظيفة محددة سلفا وبموجب القانون والأساس في تقلد الوظيفة هو أهلية الشخص المتقدم لها وتحمى الوظيفة بترسانة قوانين تحدد كيفية السير فيها كالترقيات والمكافآت والعقوبات والاستثناءات الى الإحالة الى المعاش الإجباري. أما في عهد التمكين فقد أصبحت الاستثناءات هي الأصل بمعنى أن الدخول للوظيفة ثم المضي فيها أصبحت تتحكم فيه معايير جديدة غير المعايير التي حددها القانون إذ أضيف إليها الولاء السياسي أو ثقة الحاكم او العلاقة الخاصة كما أن إنهاء الوظيفة لم يعد يخضع لقانون الخدمة العامة إنما هوى الحاكم السياسي وغير السياسي أحيانا.
على حسب نظرية ابن خلدون في نشأة وتطور الممالك أن أي دولة تؤسس على الغلبة والشوكة فيجمد الحاكم الذي أنشأ الدولة كل النظم والأعراف ويصبح الجيل المؤسس هو الجيل الحاكم بقوة الشوكة وبعد أن تستقر له الأوضاع ثم يأتي الجيل الذي يعقب جيل التأسيس وهذا يجد الأمور قد استقرت ويسعى لحماية مكاسبه الموروثة من عهد الغلبة والشوكة بالقوانين فتسود دولة القانون ثم يأتي الجيل الثالث جيل الدعة والترف فتتراخى قبضة الحاكم ويحدث التنازع ويظهر قادم جديد للحكم وهكذا تتداول الأيام بين الناس فالدولة عند ابن خلدون مثل الكائن الإنساني طفولة وشباب ثم كهولة وشيخوخة وفناء.
دعونا نتخيل اليوم أن وزارة الخارجية لديها وظائف سكرتيري ثوالث (سكرتير ثالث هي أول وظيفة في هيكل وزارة الخارجية ) تقدم لها ألف خريج جامعي وأخضع هؤلاء لامتحان لغات وثقافة عامة فمن الذي سوف ينجح في هذا الامتحان؟ من المؤكد أن الذي سوف يحرز درجات أكبر في هذا الامتحان هو الذي سمحت له ظروفه باستقرار أكاديمي واكتساب معارف لا تتيحها الجامعات بظروفها الحالية المعروفة فقد يكون تلقى كورسات لغة انجليزية في معاهد خاصة وذهب الى انجلترا ودرس الفرنسية في المركز الثقافي الفرنسي وذهب الى فرنسا ودرس الألمانية في معهد جوتة وهكذا وبالتالي يصبح مؤهلا دون غيره للوظيفة ومثل هذا لا بد من أن يكون من أولاد المصارين البيض الذين تمكنوا في ربع القرن السابق ولكنه نال الوظيفة بمؤهلاته التي أصبحت ذاتية أي مكتسبة من ظروف التمكين.
إذن ياجماعة الخير معقولة جدا أن يبدأ عهد جديد في الوظيفة العامة في السودان لتصبح هناك ثلاثة عقود الأول قبل التمكين والثاني عهد التمكين ثم الثالث عهد مابعد التمكين وهو العهد الذي يحمي مكاسب التمكين ولكنه بأي حال من الأحوال أحسن من عهد التمكين لأنه يخضع الوظيفة لقواعد موضوعية قد تحدث فيها بعض الاختراقات من الطبقات غير الحاكمة فعلى حسب نظرية ابن خلدون أصبح ما بعد التمكين أمراً حتمياً.
[/JUSTIFY]

حاطب ليل- السوداني
[email] aalbony@yahoo.com[/email]