د.عبد الوهاب الأفندي

حقبة البشير الساداتية؟


[JUSTIFY]
حقبة البشير الساداتية؟

بعد أن أطاح الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشير بقطاع كبير من أعمدة نظامه، مستغلاً خلافاتهم لصالحه، وعبأ حكومته بشخصيات تحسن قول نعم بلغات عدة، أخذ في الأيام الأخيرة يطرح أفكاراً يرمي من ورائها على ما يبدو إلى رفع شعبيته. من ذلك ما صرح به قبل أيام من اصدار توجيهات لقادة الخدمة المدنية ليتوقفوا عن سياسة محاباة أنصار النظام، أو إنهاء ما كان يعرف بسياسة التمكين، واعتماد الكفاءة فقط معياراً للتوظيف. وقد أثارت هذه التصريحات من الانتقادات أكثر مما جلبت من الاستحسان الذي كان الرئيس ومستشاروه ينشدون. ذلك أنها مثلت اعترافاً صريحاً من النظام بأنه كان ولا يزال يمارس المحاباة والتمييز ضد غالبية السودانيين، مما جدد ضغائن ضحايا هذه السياسات الكثر.
ولكن بافتراض جدية الرئيس وحكومته في التوبة عن توسيد الأمر لغير أهله، فهل يعني هذا أنه قرر القطيعة الكاملة مع حزبه الذي نشأ عبر هذا التمييز وما يزال أهم مصدر لنفوذه وقوته؟ وكيف سيتم فرض هذه السياسة الجديدة والخدمة المدنية في قبضة نفس الكوادر التي جاءت عبر سياسة التمكين؟ وهل يمكن التأكد من أن هذه السياسة أصبحت سارية في غياب الشفافية والرقابة من قبل إعلام حر، وقضاء مستقل، وبرلمان يحسن لفظ كلمة أخرى غير نعم، سيد الرئيس′؟ وإذا صدق العزم بالفعل على تنفيذ هذه السياسة، الم يكن من الأفضل البداية من القمة؟ فلماذا مثلاً لا يتم اختيار الوزراء من أصحاب الكفاءات والأيدي النظيفة؟ ولا نريد أن نضيف هنا لماذا لا يقدم الرئيس استقالته، ولكنها بالقطع ستكون فكرة جيدة، فليس حسناً أمر الآخرين بالبر ونسيان النفس.
على كل لنحسن الظن ونسلم بأننا مقبلون على مرحلة جديدة تكون فيها الخدمة المدنية (على الأقل) للجميع وليست حكراً على فئة بعينها، ولنرحب بهذه الخطوة في الاتجاه الصحيح، فإن الأمر يحتاج إلى ضمانات لا مفر منها. فليس بوسع الرئيس ولا غيره أن يعرف حيثيات قرارات التعيين في كل الوظائف في البلاد، ما لم تتسم العملية كلها بالشفافية. فكما هو معلوم فإن الدولة أطلقت أيدي كثير من كبار المسؤولين وصغارهم لتجاوز القوانين والضوابط التي تحكم أجهزة الدولة، أي بمعنى آخر شرعت لهم الفساد. وكان من المفترض، بحسب الخطة، أن تكون تجاوزاتهم لصالح النظام، بمعنى أن يكون الهدف هو إعطاء الأسبقية لأهل الولاء. ولكن المعروف كذلك أنه، كما في حالة المؤسسات المالية وموارد الدولة، فإن كثيراً من هؤلاء المسؤولين اتبعوا سياسة الأكل بالمعروف (وفي الغالب الأكل بالمنكر)، حيث استخدموا صلاحياتهم في تعيين الأقرباء والمحاسيب، وأخذوا من مال الدولة ما طاب لهم.
لكل هذا كررنا مراراً أن ما يصدر من تصريحات حول محاربة الفساد لا معنى له في وجود الفساد المشرعن. ففي ظل وجود شركات ومؤسسات تابعة للحزب أو للأجهزة الأمنية أو الجيش أو لاقارب كبار المسؤولين، وهي شركات ومؤسسات تتعامل مع الدولة بغير شفافية، ولا تستطيع الأجهزة الرقابية (حتى لو أرادات) استقصاء تجاوزات هذه المؤسسات لكونها في الغالب مسجلة في السجل الخاص، وليس للمراجع العام أو غيره ولاية عليها.
مهما يكن، فإن لب الأمر هو إرساء أسس حكم صالح يقوم على الشفافية والرقابة الشعبية. وهو ما يتطلب بدوره إطلاق الحريات الإعلامية والمدنية والسياسية، وتنظيم انتخابات حرة ونزيهة، ورد الأمانات إلى أهلها كما امر الله تعالى. وهذا يعني رد الحكم للشعب.
ولكن هنا تكمن المشكلة، لأنه من غير المعقول أن نتوقع من حزب حاكم أن ينظم انتخابات حرة يعلم أنه سيخسرها. وتزداد لا معقولية هذا المطلب حين نعلم أن خسارة الحزب للانتخابات ستكون لها عواقب وخيمة على قادته وكثير من أعضائه، حيث يتوقعون أعمالاً انتقامية من الخصوم وعلى اقل تقدير خسارة الكثير مما كسبوه. ولهذا السبب كنت قد علقت في ندوة عقدها اتحاد الأطباء السودانيين هنا في بريطانيا قبيل انتخابات عام 2010 بأنني سأثق بأن الانتخابات ستكون نزيهة عندما أرى انعقاد مفاوضات بين النظام والمعارضة حول ضمانات لقادة النظام ومؤيديه في حال تغير الحكومة. أما وهم يبدون غير قلقين من خسارة الانتخابات، فإن أي نقاش عن الانتخابات يكون مضيعة الوقت.
هذا لا يمنع أن يعمد النظام إلى المناورة، كما يحدث حالياً، في إطار خلافاته الداخلية، كما حدث بعد انشقاق عام 1999، حين تسابق جناحا النظام إلى عقد التحالفات مع المعارضة، بما فيها الحركة الشعبية، ومع الجهات الخارجية التي كانت تناوئ النظام في السابق، وعلى رأسها مصر والولايات المتحدة. وهناك ارهاصات بأن البشير وحلقته الداخلية الجديدة يسعيان إلى تحسين صورة النظام عبر فتح قنوات مع بعض قوى المعارضة أو تعزيز التحالف معها للتعويض عن دعم جهات متنفذة داخل المنظومة الحاكمة. وقد يشمل هذا عقد اتفاقات مع الحركات المسلحة، خاصة في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
ويذكرنا هذا بالسياسة التي انتهجها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في صراعه مع أركان النظام الناصري، وذلك حين مد يده إلى ضحايا الناصرية، وعلى رأسهم الإسلاميون، وأتاح حريات واسعة لنقد تلك الحقبة، مما أكسبه سنداً شعبياً لا بأس به، تضاعف بعد حرب أكتوبر، ثم تعزز شيئاً ما مع سياسة الانفتاح الاقتصادي والتقارب مع الغرب، ولكنه تبخر بعد كامب دايفيد والصلح مع إسرائيل. ولكن العبرة هي أن السادات لم يكن يؤمن بالديمقراطية، وإنما أتاح الحريات فقط لخصوم النظام الناصري الكثر، وبالقدر الذي أتاح له تحجيم أركان ذلك النظام وإنهاء نفوذهم.
ويبدو أن الرئيس البشير وحلقته بصدد تنفيذ مناورات مماثلة لتحجيم نفوذ خصومهم داخل النظام والحزب، وهي مناورات لا تثريب على المعارضة إن استغلتها. إلا أن مجال المناورة أمام البشير محدود لدرجة كبيرة. فالنظام تبنى سياسة الانفتاح الاقتصادي منذ عام 1992، وقد اقتصرت منافعها، كما كان الحال في عهدي مبارك والسادات، على قطاعات معينة في الطبقات الموسرة، كما أنه بعثر الثروة النفطية في الحروب والمناورات السياسية، فلم تعم الفائدة منها.
من جهة أخرى، فإن النظام قد جرب الانفتاح السياسي المحدود منذ عام 1998 حين وقع اتفاقية الخرطوم مع مجموعة رياك مشار، ثم عزز ذاك الانفتاح بعد اتفاقيات نيفاشا عام 2005. ولكنه، بنفس القدر الذي بدد به الثروة النفطية بلا طائل، نجح بسرعة في تبديد ما جناه رأسمال السياسي ودعم خارجي من تلك الاتفاقية بسبب تورطه في دارفور وعدم التزامه بمعظم بنود الاتفاقيات.
وعليه فإن فرص نجاح التوجه الساداتي الجديد للرئيس البشير تظل محدودة، أولاً لأن النظام ليس لديه الكثير ليقدمه. فبعد أن ضاعت الثروة النفطية، لم يعد هناك ما يغري المعارضة بالمشاركة في الحكم الذي أصبحت مغارمه أكثر من مغانمه في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة، واستمرار الحروب والأزمات في دارفور والجنوب الجديد في كردفان والنيل الأزرق، إضافة إلى قلة الثقة في عروض النظام.
وإذا كان مجال المناورة أصبح ضيقاً بعد أن استنفد النظام الحيل والبهلوانيات، فإن الحل بالنسبة للنظام والدولة يكمن في الدخول في حوار حقيقي مع خصومه من أجل وضع أسس سليمة لانتقال ديمقراطي يكسب فيه الجميع.
وقد كان ما يسمى بالجناح الإصلاحي في الحزب الحاكم بقيادة د. غازي صلاح الدين طرح أفكاراً في هذا الصدد، تتمثل في توسيع البرلمان وتشكيل آلية تشاورية مع المعارضة تتولى حسم قضايا الخلاف حول الإجراءات الانتقالية، مثل تعديل الدستور وتشكيل لجنة انتخابات تكون موضع ثقة، وتوسيع الحريات السياسية بين يدي انتخابات العام القادم، وغير ذلك من إجراءات تعزيز الثقة. ولكن رد فعل المتنفذين في النظام كان ركل هذه المجموعة خارج الحزب.
ولكن أقل قدر من التأمل يؤكد أن أي طريق صحيح إلى الأمام لا بد أن يستند إلى تقارب حقيقي مع المعارضة وإصلاح جاد للحزب، لأن الحزب بصورته الحالية يفتقد السند الشعبي، حتى داخل أنصاره السابقين من الإسلاميين. فهو يواجه معارضة من يمين الحزب ممثلة في حركة سائحون وغيرها، ومن يساره ممثلة في الإصلاحيين والقطاع الشبابي.
والإصلاح الداخلي يمكن ان يوسع قاعدة الدعم للحزب مما يسمح له بأن يتعامل بثقة مع المعارضة وبالتالي يعزز فرص عقد انتخابات ذات صدقية.
وإذا عدنا لنقطة البداية المتمثلة في مقترح إصلاح الخدمة المدنية فإنه يذكرنا بالقضية الأساسية، وهي أن تحرير الخدمة المدنية (وكل قطاعات الدولة الأخرى) من التدخلات السياسية لا يعني فقط تعزيز العدالة وتساوي الفرص بين المواطنين، بل يعني كذلك تحرير طاقات الجهاز الإداري وتمكينه من تكريس معظم جهوده لخدمة المواطن بدلا ً من بعثرة طاقاته في الكيد من بعضه للبعض الآخر. وبنفس القدر، فإن التوافق على الأسس التي تدار وفقها الدولة سيعني أن معظم مواردها ستوجه لخدمة المواطنين وتعزيز البناء والنهضة الاقتصادية، بدلاً من أن توجه لمحاربة فئات من الشعب السوداني، أو التضييق والتجسس على فئات أخرى.
فالنظام حالياً يصرف طاقات وموارد هائلة في لاقتناء أسلحة توجه إلى صدور السودانيين، ويجند جيشاً من الموظفين لمنع الصحف ومنظمات المجتمع المدني من أداء دورها في خدمة وتنوير المجتمع، فتبدد موارد البلاد مرتين: مرة في توظيفها في الهدم بدل البناء، ومرة في حرمان البلاد من جهد أبنائها. ومقتضى العقل يقول إن التمادي في هذا النهج العقيم لربع قرن من الزمان طريق مسدود أصبح البحث عن بدائل له أكثر الأمور إلحاحاً.
[/JUSTIFY]

د/ عبد الوهاب الأفندي
صحيفة القدس العربي
[email]awahab40@hotmail.com[/email]