رأي ومقالات
ابراهيم عثمان : تنكب أحزاب المعارضة السودانية الطريق إلى قلب الجماهير .. لماذا ؟
طبعاً ليس من الممكن احصاء كل عوامل ضعف الأحزاب في مقال واحد ، و تركيزي في هذا المقال سيكون على جانب مهم هو علاقة هذه الأحزاب بالرأي العام و قدرتها على جذبه و حتى هذا الجانب لا يمكن تغطيته بكافة جوانبه بمقال واحد :
– لا ترتبط هذه الأحزاب لدى الرأي العام بذكرى عزيزة تتعلق برفاهية المواطن و خدماته و تبني قضاياه ، إذ لا يكاد يوجد مشروع تنموي كبير يرتبط في الذاكرة الجمعية بأحد هذه الأحزاب . طبعاً لا سبيل لإستدراك هذا العيب و لكن هذه الأحزاب فشلت حتى فيما يمكن استدراكه ألا و هي معركة الوعد ، إذ لم تستطع -حتى الآن – على الأقل أن تقدم مشروعاً بديلاً جاذباً يقنع القطاع الأكبر من الجماهير ، فكل وثائق المعارضة لا تتعدى مجرد محاولات التوفيق الفطيرة التي هي أقرب إلى التلفيق منها إلى التوفيق ، الأمر الذي يجعل الحصيلة بائسة لا تكاد تثير حماس الجماهير
– الحزبين “الكبيرين” الأمة و الإتحادي يعتمدان على ولاءات طائفية ساهم انتشار التعليم في اضعافها ، و لا يوجد في خطابيهما رأسمال رمزي جاذب بعيداً عن كاريزما الزعيمين و التي لم تعد كافية لجذب القطاعات الشابة في المجتمع ، فالبرامج هلامية و الملامح الفكرية ضبابية ، فالصادق المهدي المشهور بتردده يقف في نصف المسافة بين العلمانية و الإسلامية وقفة مترددة و متحركة و مهزوزة ، فهو من ناحية إمام الأنصار الذي يدين له الأنصار ب”الطاعة المبصرة” و المعتمد على تراث الأجداد و تاريخهم ، و هو من ناحية أخرى المفكر “المستنير” المحقق لمعظم شروط الوسطية بمفهومها الراندي ( نسبةً إلى مركز راند الأمريكي الذي وضع تعريف للوسطية التي ترضى عنها أمريكا ) . و الإتحادي الديقراطي هو تقريبا حزب بلا هوية فكرية إذ لا توجد أي تنظيرات فكرية مصدرها الزعيم أو أي من قادة الحزب ، و حتى موقفه من النظام هو موقف ملتبس ، فلا الحكم انغمس فيه بشكل يجعله يُنظر إليه كحزب حاكم أو مشارك في الحكم و لا المعارضة قد مارسها كبقية المعارضين . أما حزب الأمة فمنذ اتفاق جيبوتي كان في المنطقة بين المعارضة و المولاة و لم يخرج منها إلا مؤخراً و لكنه لم يخرج من الضبابية إلى الوضوح الجاذب و لكنه خرج منها إلى الوضوح الصادم بتحالفه الوثيق مع حركات التمرد و انخراطه في تسويق مشروعها بمواءمات برع الصادق المهدي في نسج خيوطها و لكنه رغم ذلك لم يحرق مراكب العودة إذ ظل يتباهى بأن اتفاق باريس نجح في اقناع المتمردين بالتغيير السلمي رغم أن الواقع يثبت أن خطوته سيستعملها المتمردون لتقوية موقفهم على طاولة المفاوضات مما يصعب الوصول إلى اتفاق و بالتالي يطيل أمد الحرب . و لا نستبعد أن يكون الصادق المهدي قد سعى لأن يقنع التحالف الإقليمي المضاد للإخوان ( و الذي برر بقاءه في الخارج لتمتين العلاقات معه) بدعم حركات التمرد عسكرياً و سياسياً كيف لا و هو الذي يقول بأن مهمته الرئيسية الآن هي تسويق اتفاقه مع المتمردين لدى دول الإقليم و الدول الكبرى . إذن هذين الحزبين بموقفهما الضبابي من الدين لا يستطيعان جذب العلمانيين و لا أصحاب الميول الإسلامية .اللهم إلا القلة من الواقعين تحت أسر الولاء الطائفي ممن لا تعنيهم كثيراً برامج الحزب أو وجهته الفكرية . و حزب الأمة لن يكسب جماهير جديدة بدعمه للتمرد ، فأنصار التمرد عدا أنهم قلة محصورة في جهات معينة فإن ولاؤهم هو لقادة التمرد و ليس لمن يؤيد فعلهم من باب اللعب السياسي و رداً على واقعة سجنه المدانة ، بل ربما فقد بعض المتعاطفين معه ممن يتضررون من فعائل التمرد حتى لو لم يكونوا ممن يتوجسون من توجهاته العلمانية الفاقعة و ارتباطاته المنفرة .
– الوعد بالديمقراطية و الحرية و حقوق الإنسان لم يعد يكفي ليكون أحد عوامل جذب الجماهير تجاه أحزاب المعارضة ، فالواضح أن هذه مواقف تكتيكية متحركة حسب المصلحة ، مثلاً جوبا حليفة الجناح المسلح للمعارضة و الداعم الرئيسي له هي مثال صارخ لغياب الحريات و كبت المعارضين ، و مشروع السودان الجديد حين تم تطبيقه على الجنوب أفرز حرباً أهلية قضت على الأخضر و اليابس هذا في بلد يفترض أنه مؤهل أكثر من السودان الشمالي لتطبيق المشروع فما بالك بمحاولة الحركة الشعبية لتصدير مشروعها الفاشل إلى بلد لا يحتمل مثل هذه المشاريع العنصرية العلمانية الماركسية المتأمركة ! ، هذا بجانب الحماس الذي استقبلت به هذه الأحزاب انقلاب مصر بمجازره و اعداماته و مصادرته لكافة الحريات . و لا تكفي الحجة التي يسوقها البعض لتبرير ذلك الحماس بأن النظام الحاكم أيضاً قد قبل بعد تردد و على مضض التعامل مع نظام السيسي ،
– مكايدة النظام ورطت هذه الأحزاب في مواقف لا تتمتع بالشعبية ، مثلاً هناك قضايا بطبيعتها تؤثر في الرأي العام و تميل الأغلبية تلقائياً إلى دعم الموقف الذي يحرص على الصالح العام في مواجهة أي استهداف خارجي و هذا تقريباً هو موقف الغالبية الشعبية حتى تلك التي لا تؤيد النظام فالرأي العام الجمعي ليس مهجوساً بالخوف من استفادة النظام من مثل هذه المواقف . على سبيل المثال عندما قام الجنوب مدعوماً ببعض فصائل التمرد بالإعتداء على حدود السودان عدة مرات صمتت المعارضة و بعض التصريحات التي صدرت كانت صادمة للرأي العام لأن بعض متحدثي المعارضة حاولوا تبرئة جوبا و تحميل المسؤولية للحكومة دون أن تكون في تصريحاتهم أي نبرة غضب على جوبا ، و زاد الطين بلة بيان ياسر عرمان الذي هلل لإحتلال جزء من أرض الوطن و توعد باحتلال المزيد من المناطق . المعروف آن الحزب المعارض يتمتع بميزة اتساع الخيارات و امكانية تبني الشعارات و تقديم الوعود دون مواجهة سؤال التنفيذ ، بينماالأحزاب الحاكمة تحكمها ضرورات الواقع و تجعل أي وعد مواجه بإختبار مصداقية آني ، انطلاقاً من هذه البديهية ، فإن الحزب المعارض الذي يضيع هذه الميزة و ينخرط في ممارسات سياسية يمكن وصفها بالفاسدة و المعزولة شعبياً ، لا يمكنه أن يفعل ذلك إلا إذا كان هناك شحن عاطفي غرائزي يحد من طلاقته السياسية و يجعل حركته السياسية مقيدة بقيد الإنتقام الذي يجعله لا يعاف وسيلةً تقربه من تحقيقه ، و يتناقض مرات و مرات لينأى بنفسه عن النظام ، و لذلك يخسر فرصة الوقوف مع كثير من القضايا العادلة ذات الشعبية العالية ، إذ يستحيل أن تكون كل مواقف النظام تجاه كل القضايا مستهجنة ، فليس من الحكمة في شئ أن تخسر الرأي العام لمجرد فوبيا تطابق المواقف مع النظام . بل يمكن القول ، و بكل يقين ، أن بعض أحزاب المعارضة تقدم خدمة العمر للحكومة باستقالتها من كثير من القضايا في الحد الأدنى ، أو معاكسة المزاج الشعبي في الحد الأعلى ، و الأمثلة على ذلك كثيرة . النتيجة النهائية لهذا النوع من الأفعال و المواقف ستكون مجرد إغاظة للنظام بإمكانه احتمالها بل و ربما يضحك في سره هازئاً من هذه الأحزاب قصيرة النظر التي تشتري غيظ النظام بمعاكسة الوجدان الشعبي العام مما يقطع الأمل تماماً في أن تكون بديلاً جاذباً .
– من المعروف أن الصورة الذهنية تتشكل نتيجة تداخل عدة عوامل بعضها يؤثر بطريقة لا واعية ، فالصورة الذهنية النهائية لأي تحالف سياسي تتأثر بدرجة كبيرة بمواقف أكثر أعضاء هذا التحالف تطرفاً ، فأي تحالف سياسي يضم أطرافاً تقيم علاقات علنية مع دولة مثل إسرائيل و مع اللوبي الصهيوني يجعل الموقف الجمعي تجاه هذا الحلف يتأثر بصورة كبيرة بهذه العلاقة ، فالعقل الجمعي لعامة الشعب لكي يتقبل هذا التحالف و ينتظر منه أن يكون بديلاً مقنعاً للحكم عليه أن يقطع أشواط كبيرة في هز المسلمات القارة في وجدانه و زحزحتها ، و هذه ليست بالمهمة السهلة ، هذا بجانب العلمانية المتطرفة التي تتبناها بعض أطراف هذا التحالف ، إذن هذه الأحزاب وضعت حاجزاً آخر على قطاعات الشعب اجتيازه ، الحاجز الأول – و هو الأسهل – هو الوصول إلى مرحلة فقدان الأمل تماماً في النظام و الاستعداد للثورة عليه ، و الحاجز الثاني الأكثر صعوبةً هو الاستعداد لقبول أن يكون البديل هو هذا التحالف الذي يضم في أحشائه قوى متصارعة من المؤكد أن خلافاتها ستنفجر مباشرةً بعد إسقاط النظام و هو التحالف الذي يعلو فيه صوت حركات التمرد و فصائل اليسار ذات الشعبية شبه المعدومة بخطابها العلماني البعيد تماماً عن وجدان الشعب و بعلاقاتها المشبوهة مع أطراف مكروهة شعبياً . و لست في حاجة لحشد الأدلة التي تؤكد أن مهمة اقناع الجماهير بالخروج لإسقاط النظام هي أسهل بكثير من مهمة اقناعه أن يفعل ذلك ليكون البديل هو هذه القوى التي تصادم قناعات الأغلبية و مسلماتها . فمهمة إثبات أن النظام الحاكم في السودان يخون هذا المبدأ أو ذاك أسهل من مهمة إثبات خطأ المبدأ و التحول إلى تبني نقيضه ، و هذه الجزئية انتبه لها المؤتمر الشعبي مؤخراً بعد انخراط استمر لزمن طويل في ممارسات المعارضة التي تغفل عنها رغم معاندة بعض كوادره التي قطعت شوطاً بعيداً في التماهي مع اليسار و تبنت كل خياراته و مقولاته .
ابراهيم عثمان[/JUSTIFY]