جعفر عباس

مِهن ومِحَن (1)


[JUSTIFY]
مِهن ومِحَن (1)

وضع الكمبيوتر الغبي خطاً أحمر تحت كلمة «مهن» بكسر الميم وهي جمع «مهنة»، ولعله اعتقد أنني اخترعت كلمة جديدة تنتهي بنون النسوة، فأراد أن يبلغني بأنني مخطئ، وفي هذا رد على من يقولون إن الكمبيوتر سيحل محل العقل البشري خلال سنوات معدودة، وأعرف كثيرين جعلوا من محرك البحث جوجل مستشارا في كل شؤونهم، وكلفوه بترجمة نصوص من العربية إلى الإنجليزية وقدموا الترجمة إلى جهة ما لغرض ما واكتشفوا أن ترجمة جوجل عبارة عن خرابيط عديمة المعنى، فإذا طلبت من جوجل ان يترجم «تزوج سعيد نور الدين بهدية بنت مبروك» فإنه سيحولها إلى happy light of religion married a gift daughter of congratulations بعبارة أخرى فإن جوجل الذي يدعي أنه بتاع كله سيعتبر «سعيد» صفة وليس اسما، وبنتنا هدية التي انتقلت من العزوبية إلى بيت الزوجية تصبح شيئا يهدي أي هدية مقبولة أو مرفوضة.
عندما تناقلت الصحف قبل نحو عشرين سنة أن الكمبيوتر سيضع نهاية لمهنة الترجمة وسيقطع عيش المترجمين، قلت الدوام لله يا أبو الجعافر.. مسوي حالك مترجم محترف، ودخلت مجال الإعلام متسلحا بعضلاتك الترجمانية، وكمان صرت تتدلل كلما طلب منك شخص أو جهة ترجمة بعض النصوص متعللا بـ«المشغولية»، وها هو الكمبيوتر بصدد إحالتك إلى الأرشيف فابحث لنفسك عن مهنة.. بيع بصل أو قات.. ولا تبك على ما فات، ولكن ما أن طرحت عدة مواقع إمكانات الترجمة الإلكترونية، حتى أدركت أنني «مربع» بكسر الميم، والكمبيوتر «فرزدق»: زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا/ فابشر بطول سلامة يا مِربع.. دعكم من الترجمة: ما قولكم في الكمبيوتر اللي عامل فيها أبو العريف والمفهومية ويتغلب عليه الآلاف يوميا في لعبة الشطرنج القائمة على عمليات حسابية دقيقة وتتطلب تركيزا وتحليلا سريعا وذكيا لكل حركة للقطع المملوكة للخصم، بينما الكمبيوتر بأكمله عبارة عن عمليات رياضية فائقة السرعة والدقة ولهذا كان تعريب الكلمة إلى الحاسوب، لأن كمبيوتر جاءت من كمبيوت compute وتعني يحسب/ أحسب
في مسيرة حياتي دخلت مجالات عمل كثيرة: بائع في متجر أحذية، وكاتب في مختبر طبي مسؤول عن تسلم العينات وتوزيع النتائج للناجحين والراسبين، ومساعد ضابط انتخابات، ومدرس ومترجم وصحفي ورقي وتلفزيونجي، ودبلوماسي (هذه المحطة في حياتي لم أكتب عنها قط لأنني لم أمارس الدبلوماسية قط، لأنني بالتأكيد لست دبلوماسيا لا في كلامي المنطوق أو المكتوب، وكل ما هناك هو أن وزارة الخارجية أعلنت عن وظائف لدبلوماسيين، وجلست لعدة اختبارات تحريرية ونجحت فيها بالمزيكة، ثم خضعت لإنترفيو/ مقابلة شخصية، أمام جهابذة في عدة مجالات، وكنت محل تقديرهم بل عرض علي البروفسر محمد عمر بشير الذي كان يرأس الإدارة الإفريقية في الخارجية السودانية وقتها أن أعمل معه في تلك الإدارة لأنه لمس لدي فهما طيبا للقضايا الإفريقية، وتم منحي درجة سكرتير ثالث، ثم استدعوني مع بقية من وقع عليهم الاختيار، وقال لنا أحد كبار الدبلوماسيين: اذهبوا إلى معهد الإدارة العامة لقضاء ستة أشهر فيه لدراسة……. ولم أترك الرجل يكمل كلامه، فقد صحت فيه: ما صدقنا خلصنا الجامعة والامتحانات والسهر وتريد مني أن أجلس من أول وجديد على كرسي الدراسة؟ هذه الشغلانة ما تلزمنيش يا سيد.. وهكذا صرت الدبلوماسي اللي ما دبلمبسش حاجة.. ولم أندم على تنازلي عن وظيفة تسيل اللعاب، فبعدها بأشهر كانت الحكومة التي كان مفترضا أن أعمل دبلوماسيا في خدمتها قد زجت بي في السجن، ولو كنت موظفا في الخارجية لربما «شاتوني آوت» وأنا في عاصمة إفريقية، السجن أخف من طلب اللجوء السياسي فيها).
[/JUSTIFY]

جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]