مِهن ومحن (4)
عنوان هذه السلسة من المقالات أقصد به القول إنه ما من مهنة إلا وبها عنصر «المِحنة»، بكسر الميم، وتسكين الحاء، وقلت في مقالي الأول من هذه السلسلة إنني عملت في مهن مختلفة ثم تعاملت مع أصحاب معظم المهن، ومثل معظم مواطني العالم الثالث فإن أثقل شيء على قلبي هو التعامل مع موظفي «الحكومة». سبحان الله ففي كل بلد تجدهم متجهمين أو متعنطزين أو مستهترين أو مستهبلين (إلا أقلية مضطهدة حتى من قبل الزملاء لأنها تعمل باجتهاد ونية خالصة)، ولم يحدث أن دخلت مكتبا للقطاع العام لقضاء أمر ذي طابع رسمي، إلا وحمدت الله أنني لا أحوز رخصة امتلاك سلاح ناري بل لا أجيد استخدام ذلك النوع من الأسلحة، فغالبية موظفي الأجهزة الحكومية من فصيلة فاروق الفيشاوي أي أن وجوههم التي عليها غبرة تكتسي تعابير تقطع الخميرة، فهم مبرمجون لتعطيل مصالح الناس، وتمد إلى الواحد منهم أوراقا تتعلق بالأمر الذي تريد قضاءه فيكون همّه الأول اكتشاف الثغرات في أوراقك ليعيدك الى المربع الأول، ولا يفعل ذلك بالضرورة لأن الأصول واللوائح تقتضي ذلك، ولكن لأن الأولوية عنده أن «تغور» من وجهه، وبداهة فإنني أتكلم هنا عن الموظفين الذين يتعاملون مع الجمهور، وهم عادة يشغلون درجات وظيفية صغرى/ دنيا، ورواتبهم تغطي بالكاد نفقات الانتقال من وإلى مكان العمل، وتكلفة وجبة الفطور الصباحية، وبالتالي فإنهم مغبونون ومظلومون لأن معظم عبء العمل على رؤوسهم بينما «الكبار» في غيِّهم يعمهون، وبالتالي فإنهم يفشون غلّهم في المواطن الذي عليهم تسهيل أموره.
كنت في الخرطوم وعام 2013 يلفظ أنفاسه الأخيرة، وكان لا بد من الحصول على مستند رسمي يخص العقار الوحيد الذي أملكه على ظهر الكرة الأرضية، وبما أنني من النوع الذي يحتفظ بكل مستند، ولو قامت شركة بالتنقيب في حقائبي اليدوية القديمة فستجد إيصال شراء حذاء في مارس 1978، وإشعار علاوة سنوية نلتها عام 1982، فقد توجهت إلى مكتب تسجيلات الأراضي ومعي تلّ من الأوراق الرسمية يؤكد ملكيتي للعقار والأرض التي يقف عليها، ولكن القانون السوداني يفرض عليك الحصول على ما يسمونه «شهادة بحث» كلما أردت التصرف بأي شكل من الأشكال في أرض أو عقار تملكه، وصلاحية تلك الشهادة سنة واحدة، وحسبت انه طالما أنني أملك الوثائق الرسمية التي تؤكد ملكيتي للأرض والعقار، فإنني سأحصل على المستند المطلوب خلال دقائق أو ساعة واحدة بعد دفع المعلوم، لأن الفيلم الهندي المتعلق بشهادة البحث القصد منه جباية الرسوم، وإلا ما معنى أن يحصل شخص على شهادة بحث لعقار يقيم فيه ولديه كل المستندات التي تؤكد ملكيته له.. يعني لو ضاع العقار أو تعرضت جدرانه وسقوفه للسرقة تبقى معقولة أن تسعى للحصول على «شهادة بحث».. المهم أنني قضيت 12 يوما حتى حصلت على تلك الشهادة، وأديت صلاة الشكر جهرا وأنا واقف، (والصلاة لغةً هي الدعاء)، ولكن وعند «السلام عليكم»، قال لي الموظف إنه يستحسن أن أتقدم بطلب للحصول على شهادة بحث «بغرض التأكد»!! طيب والشهادة التي حصلت عليها «الآن» فيها شك أو شق؟ فكان تعقيبه: بلاش فلسفة.. انت حر ولو مش عايز شهادة التأكد ذنبك على جنبك، ولأنني لا أحب الذنب على جنبي أو خدّي، فقد قدمت الطلب وحصلت على شهادة التأكد في زمن قياسي: ستين ساعة فقط.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]