سنة حلوة ياجميل.. الترابي و83 عاما من البذل والعطاء والأفكار ميلاد الشيخ
أمس (الأحد) كانت ذكرى ميلاد الشيخ حسن عبد الله الترابي ليبلغ شيخنا (83) عاما، قضى معظمها أو جلها في العمل العام والسياسي، وكانت الصرخة الأولى لشخصية غيّرت كثيرا في الأحداث السودانية والإقليمية والدولية في مدينة كسلا في الأول من فبراير عام 1932، تخرج الترابي في جامعة الخرطوم كلية الحقوق قبل حصوله على الإجازة في جامعة (أكسفورد) البريطانية عام 1957، وحصوله على الدكتوراة بجامعة (السوربون) بباريس في 6 يوليو عام 1964. ويتقن “الترابي أربع لغات، فبالإضافة إلى اللغة العربية يتكلم الفرنسية والإنجليزية والألمانية بطلاقة بخلاف حفظه للقرآن الكريم وتأليفه للتفسير التوحيدي بجانب مؤلفات عديدة أخرى في السياسة والشعائر، تاريخ طويل من العطاء دوّن بين دفتيه شيخ حسن الكثير والكثير في هذه الحقبة، كذلك العديد من الأفكار والرؤى والأطروحات، في كافة المجالات..
السياسة والدين كانتا في طليعة أولوياته واهتماماته، فالرجل بما قدمه للسودان والعالم يستحق الوقوف والانتباه، الترابي شخصية ثرية وحياته حافلة بالكثير المثير الخطر.
1
سنة حلوة
اليوم وبعد سلسلة طويلة من الارتفاعات والمنحنيات في حياة الرجل يمر عليه هذا العام تحديدا، وهو في تصالح ظاهر مع السلطة، بعد قطيعة دامت خمسة عشر عاما، قضاها الشيخ في خصام قاس مع تلاميذه، وكلفه ذلك دخول المعتقل مرات، ليأتي عامه المنصرم بمنحنى أسرع من كل منحنياته السابقه، فقد تحول الترابي عن كل آرائه، ويفسر المراقبون ذلك بأنه نتيجة للتغيرات السريعة والمفاجئة التي حدثت بالمنطقة بعد الربيع العربي، تدارك الترابي أن السودان لا يحتمل مثل هذه التغيرات العنيفة، فعدل عن مطالبته بالثورة وسقوط النظام، وبحث عن طريقة أخرى ربما تكون مخرجا آمنا للوطن كله، في حين يرى آخرون أن مواقف الترابي تكتيكية وأنه يعمل دائما من أجل مصالحه فقرر التصالح مع إخوان الأمس حتى لا يتعرضوا لما تعرض له إخوان مصر.
2
وصال جميلة
على هوامش بعض حواراتنا مع الترابي من قبل تحدث لنا الشيخ عن جوانب مختلفة في حياته قائلا إن زوجته السيدة وصال كانت طالبته بالجامعة، وكان وقتها يصل إلى مرحلة الجامعة ما يعادل 40 فتاة من كل 1000 طالب، وكون وصال تصل إلى الجامعة في هذه الفترة فمعناه أنها كانت متفوقة ومختلفة، مضيفا أن وصال بالإضافة إلى تميزها كانت جميلة.
ولم يتصالح الترابي مع فكرة تعدد الزوجات، متسائلا: هل خلق الله 2 حواء وآدم واحدا؟، وهل نسيتم آدم لحواء؟ مؤكدا على حديثه بأن الخوف في هذا الموضوع من أن الشخص لا يستطيع أن يعدل بينهن، ويضيف الشيخ أطال الله في عمره: في تقديري أن الطبيعي واحد لواحدة، وتابع الشيخ بأنه لا يمنع تعدد الزوجات تماما، واستطرد قائلا: ولكن زوجة ثانية بالنسبة لي، لابد أن يكون لها سبب قوي جدا، أو تقدم بها العمر، وقال: حتى نساء النبي لم يتزوجن بعده، ولكن نساء النبي وأمهات المؤمنين شيء آخر، وقال: العرب زمان كانت المرأة لديهم مضطهدة أصلا، مشيرا إلى أنه لا يذهب إلى زواج ثان إلا بعد أن يتأكد أولا أن الضرورات قد حاصرت الزوج.
3
الإسلامي الفنان.. لاعب الكرة وجامع السيمفونيات
الترابي في ماضي حياته جمع السيمفونيات والموسيقى الشعبية، وتلك كانت هواية عنده، وبحسبما يقول الشيخ: أنا أسمع الأغاني ونسبيا أحكم فيها، وأحب الكرة أيضا، فكان من الممكن أن أكون فنانا أو لاعب كرة، لكن لدي إمكانات في مجالات أخرى، ويضيف الشيخ: كنت عادلا في لعب الكرة، وكنت أرى أن من يؤدي اللعب بروح رياضية وبفنون رياضية أفضل لي من الغالب والمغلوب، وكنت أصفق له، لافتا لأنه دائما هناك من ينحاز في الكرة فهناك عصبيات.
4
أنا سوداني.. لا شيعي ولا سني
وعن الأدباء الذين قرأ لهم الترابي قال: كل أديب أنظر له، فمثلا طه حسين كانت لغته بها انسياب وبساطة وأتى بأفكار جديدة، ولذلك أعجبني أدبه جدا، كما قرأت للعقاد وكان معقدا، والزيات كنت أقرأ له الرسالة، وزاد: كان الأزهر في السابق عالميا وكنت أتابع مجلته، ويجب أن يعود الأزهر لسابق عهده، كلما ذهبت مكانا في العالم ألتقي ناسا درسوا في الأزهر، فلابد أن يكون عالميا كما كان، مؤكد أن الأدباء تكاثروا ولكن لم يعد بينهم بروز شديد، وقال: أنا أقرأ للجميع. وعن الفن قال: طبعي أن أسمع الكل، أنا لا شيعي ولا سني، أنا سوداني، وتربيت في أماكن كثيرة بالسودان، وأتابع ما يحدث بالعالم وكأنه في بيتنا، مضيفا: لا أتعصب ولا أتحيز، فهذه طبيعتي أن أكون مفتوحا، في الكرة لا أنظر للفائز، أنظر لطريقة اللعب، ساعات كثيرة يكون الفوز صدفة، أحدد ضوابطي باللاعبين العالمين، وبطريقة موضوعية..
5
عثمان حسين.. ود الأمين وسيد خليفة في حياة الشيخ
الترابي لفت إلى أن مشاغله قد كثرت الآن، وقال: زمان كنت بسمع الكل وأشوف كل واحد امتيازه كيف؟ وفي أي مكان؟ كنت أتابع جيدا، وكنت أسمع أم كلثوم، وكانت كل الموسيقى عندي، وكنت أتدخل للذين يعملون الأناشيد، وأقول لهم خفضوا الموسيقى، حتى تعلو الأصوات على الموسيقى، ففي بعض الأغاني لا تفهم شيئا من ضجيج الموسيقى وعلوها على الأصوات، وتابع: المقصود من الموسيقى أن تحمل المعنى وتغرسه في نفسي، لو تحدثت بطريقة باردة فالكلام لن يدخل، وقال: أحب عثمان حسين، ومحمد الأمين وسيد خليفة الذي كان دارسا للموسيقى وكان يجدد وأي شخص يجدد وصاحب فكر أو رأي أحبه، حتى لو اختلفت معه في الرأي ولكنه مجدد، مضيفا: التقيت فنانين سودانيين كثرا في الاغتراب، في فرنسا وغيرها، وهناك فنانون صوتهم قوي مثل الكاشف، وأبو داؤود وكان صوته رخيما ويعجبني جدا، وحكمي على الفنانين بأن لا توجد رتابة، مشيرا إلى أن العرب قديما كتبوا موسيقى، حتى أصبح عندهم الغناء، وكذلك أوروبا، وقال: لابد أن يكون هناك إنتاج جديد ومتجدد حتى لا تحدث هذه الرتابة، فالإنسان يمل، مبينا أن السودانيين لم يقفزوا في ذلك كثيرا، وقال: السيمفونيات جميعا لا يوجد بها تكرار، وأنا أستطيع أن أميز بين السيمفونيات لدى بتهوفن جميعا بين السادسة والسابعة وهكذا، وكان هناك شوبان وغيره وأستطيع أن أفرق بينهم، وتابع: أنظر لكل شعاب الفن في المسرح والسينما، فهناك من يحب الآكشن، ولكنني أحبه عندما يكون فيه ذكاء، على أن يكون الآكشن معقولا وليس عاليا.
6
كنت أبحث عن كتاب سودانيين أقرأ معهم تاريخ السودان
الشيخ تحدث أيضا عن ضرورة ترجمة الأفلام إلى لغات أخرى، وقال: الحركة هي تعبير عن الكلام، ترسل رسالة للعين تكون موافقة لما يرسل للأذن، حتى تؤثر على الإنسان بكل مداركه، وتكون متوافقة حتى تصل، مضيفا: لابد أن تخرج السينما أكثر للعالم، مهم أن يترجموها، ويدخلوا بها في المسابقات العالمية.
وواصل الشيخ حديثه معنا في فواصل أخرى قائلا إنه كان يبحث عن كتاب سودانيين يرى معهم تاريخ البلاد، مضيفا: لكن حتى الآن الأعراف والتاريخ تكاد تكون غير موجودة لـ 500 سنة للخلف، حتى تاريخ دخول الإسلام قليل، وعاب الشيخ على الكتاب السودانيين أنهم أحيانا يترجمون كتب الإنجليز عن السودان، وقال: هذا الإنجليزي المسكين الذي أتى ليكتب عنا مسطح ولم يع تماما الحياة لدينا، ولم يعرف تفاصيلها فلم يعجبني من السودانيين ذلك، مضيفا: هناك بعض الكتابات أعجبتني عن المهدية، أما من العهد الوطني فهناك من كتبوا مذكراتهم الخاصة وقرأت أغلبها..
7
لا أقرأ صحيفة واحدة والصحافيون بالسودان لم تخرج طاقاتهم
يرى الترابي أن من يكتب عنه سيرته الذاتية أفضل من أن يكتبها بنفسه وقال: لأنه يعكس في شخصي أكثر مني وسيبحث عني أكثر للآخرين، فأنا قد أكون فعلت أشياء سيئة لم أشعر بها، وأخرى قد تكون حسنة، الآخر سيرصد ذلك أكثر مني، فالآخر الذي يكتب عني يرى كل الجوانب عكسي، كثير من الناس يكتبون كثيرا ولكن كتاباتهم ليس بها جديد، أقرأ كثيرا وليست عندي مذهبية في أي فنون، أرى كاتبا ممكن يكون عنده ذكاء في جزء ومتأخر في آخر، وأقارن بهذه الطريقة، وقرأت لكثيرين فنتاجي من تجارب الآخرين، وعن الصحيفة التي يتابعها ويقرأها كل صباح يقول الترابي: لا أقرأ واحدة أقرأ عددا من الصحف، لأن الحاكم كبتها، لافتا إلى أن الصحف بالسودان تخرج من نفس المصادر بنفس الحديث، والإعلانات متحكمة فيها، منبها لأنهم لم يخرجوا طاقات الصحفيين وخيرهم، ولم يستفيدوا منها، وقال إن العالم تقارب الآن من اتصالات وغيرها حتى في الكرة من جنسيات مختلفة، وقال: تحدثت مع الصحافيين والكتاب بأن يعددوا اللغات وأن يكتبوا التاريخ، فلابد من التعليم.
8
أشهد بأنه أعظم تلميذ درسته
الأستاذ محمد إبراهيم أبوسن كان مدرسا للغة العربية والتربية والإسلامية للترابي في المرحلة الوسطى والذي يقترب من المئة عام يقول لـ(اليوم التالي): أشهد بأن الترابي كان أعظم تلميذ درسته، وأنه لم يكن مجتهدا بل كان فوق الاجتهاد.. ويصمت لحظة يستعيد فيها ذاكرة السنين الطويلة قائلاً: لا يوجد ولم أصادف أحدا مثله في حياتي، ويضيف: كان طول الوقت حيا في صفه وفيه الكثير من الصفات، ويسترسل الأستاذ الذي يصمت بين كل جملة وأخرى ليقول: الترابي كان نشيطا، درسته سنتين، كل مواقفه كانت فوق العادة، وكنت أتوقع له مستقبلا باهرا.
اليوم التالي