“رحلة عيون” صلاح ابن البادية.. ثلاثية التصوف والفن والمسرح
يمتلك الكثير من عمالقة الغناء السوداني عدداً من المواهب، إضافة إلى الغناء، ويبدعون فيه مستخدمين سحرهم الخاص في جذب الجمهور، وصالح الجيلي أحد أولئك العمالقة الذين أبدعوا في التمثيل، وقدموا أروع المسرحيات وأجمل الأعمال السينمائية.
وبالرغم من أنه ينحدر من أسرة متصوفة، إلا أنه أصر على النهوض بموهبته التي تخالف عادات أسرته، وتحفل بأعطر وأجمل الكلمات، لكن من هو ذلك الصالح؟، وكيف كانت حياته؟ هذا ما ستوضحه السطور التالية:
أم دوم وأبوقرون
شهدت منطقة أم دوم جنوب شرق الخرطوم مولد صالح الشهير بـ (ابن البادية) الابن الأكبر لـ (الجيلي) في (1937)م، الذي ترجع أصوله وانتماؤه لقبيلة الحسانية الكواهلة، وبدأت أولى خطواته فيها، لكنه عاش وترعرع بينها وأبو قرون وسط إخوانه الثلاثة (فاطمة، بتول، النيل). تعلم تلاوة القرآن وعلومه في خلوة جده أبوقرون، وفي السياق قال رفضت أسرتي انضمامي للفصول الأكاديمية عندما حانت لحظة تعليمي، ودفعت بي إلى خلوة جدي أبو قرون لحفظ القرآن والتفقه في علومه، وبعد نضوجي وتفتح ذهني قررت الإلمام بكل العلوم المعرفية، فالتحقت في منتصف السيتنيات بمعهد الجامعة الشعبية المصرية، لتلقي العلوم المختلفة بجانب الإنجليزي والرياضيات، لكنني لم أستمر فيها وتوقفت عند السنة الأولى، وفي العام (1973)م قررت أن أكمل نصف ديني وأتزوج ابنة خالي (زهرة خوجلي)، وفي نفس العام قطنت في منطقة شمبات العريقة.
زهرة وعودة
وبعد أن تم زواج ابن البادية من (زهرة) التي أحبها منذ الصغر، عاد مرة أخرى لمواصلة دراسته بواسطة التعليم عن بُعد، فقد كان يراسل الجامعة من السودان، وفي أثناء فترة دراسته عمل تاجراً للخردوات، في دكان يتبع لأحد أقربائه، أكد ابن البادية ذلك عندما قال تزوجت زهرة وقضيت معها أجمل أيام حياتي حتى وافتها المنية قبل أربع سنوات وحزنت عليها أيما حزن، فـ (زهرة) باقية فينا ولم أشعر برحيلها، خاصة وأنها تركت لي (شادية، نادية، وصال، سلوى، محمد، حسن، وعبد القادر)، وكانت نعم الزوجة ونعم الونيس لم تزعجني بغيرتها من الفتيات، لاسيما المعجبات اللاتي يلتففنّ حولي وكانت عليها الرحمة تستقبلهنّ بالبِشر والترحاب، ولم ينته الأمر عندها إلى هنا بل كانت تقوم بواجب الضيافة نحوهنّ عليها الرحمة بقدر ما قدمت لنا أنها فعلاً فقد عظيم.
أدب وشعر
عشق ابن البادية الأدب والشعر منذ نعومة أظافرة، لذلك كان يترك لأذنه الحرية وسماع أغاني فناني ذلك العهد والراحل خضر بشير أولهم للحس الصوفي الذي كان يتمتع به صوته كما أشار في حديثه، وأضاف حتى أتمكن من سماع الأغاني بحرية وخاصة (الأوصوفك) التي أعجبت بها كثيراً وبعض الأغاني الشعبية التي كانت تعج بها الساحة آنذاك مثل (خاتمي العاجب البنوت، الليلة سار يا عشايا، غنيته للستات)، واغتنيت راديو يمكنني سماع ما أريد، فتابعت عبر أثيره كل السهرات التي بُثت، وأذكر أنني أحببت الاستماع للفنان حسن عطية الذي يطربني كثيراً.
وقال ابن البادية أنه تعلم العزف على العود على يد الأستاذ عبدالعزيز عبدالله، أمهر العازفين في فرقتي الموسيقية التي كانت تتكون من ثلاثة عازفين آنذاك، منهم على سبيل المثال لا الحصر عازف الكمنجة الماحي إسماعيل.
الميلاد الفني
كان خوفه من أسرته الصوفية هو ما يؤجل ظهوره الفني عبر أثير الراديو لذلك تأخر كثيراً في ذلك، وكانت بدايته الفنية عبر أثير الـ (bbc) التي كان الكاتب الكبير والروائي ذائع الصيت الراحل الطيب صالح مذيعاً بها في القسم العربي، وقال صلاح عندما كان يمضي الطيب إحدى إجازاته السنوية في السودان، رشحني بعض الأصدقاء له، ولما سمع الأغنيات التي كنت أرددها آنذاك، وهي (الأوصوفك) بالإضافة إلى (خاتمي العاجب البنوت، الليلة سار يا عشايا، غنيته للستات)، وهي الأغاني التي كنت أحب السماع إليها باستمرار، حيث أنني لم أكن أنتج أغاني خاصتي بعد، فطلب مني تسجيل الأغنيات الأربع، وبعد تسجيلها طلب من محمد عامر بشير مدير الاستعلامات والعمل وقتها سماعها ومن ثم إبداء رأيه فيها، وأذكر أن صوتي أعجبه كثيراً حتى أنه أطربه، فأرسل يبلغ الطيب بالنتيجة، الذي خفي في إرسال مندوبه يخبرني بالمشاركة في سهرات الشهر، الحقيقة إنني خفت بادئ الأمر من رد فعل أسرتي الصوفية، لكنه طيب الله ثراه طمأنني، وقال لي: “اطمئن من تلك الناحية فأنا سأتولى الامر بنفسي”، وبالفعل استطاع إقناع أسرتي وفي (1959)م اعتليت خشبة المسرح القومي بأم درمان، وكان ذلك أول ظهور لـي على الخشبة التي كان جمهورها لجنة الاختيار وكانت تلك لحظة ميلادي الفني.
في محراب الحب
تعامل ابن البادية مع العديد من الشعراء حتى وصلوا الـ (20) شاعراً، لكن كان لإسماعيل خورشيد السبق عندما كتب له (في محراب الحب) ليصبح بذلك أول شاعر كتب له وبالتالي هي اول قصيدة يتغنى بها، أشار صلاح إلى أن القصائد والاغنيات انهالت عليه بعد ذلك فكتب له محمد يوسف موسى، الصادق الياس بالإضافة إلى صديقه المقرب مبارك المغربي الذي كتب له أغنية (الحب القديم)، وتابع “لدي (80) أغنية وطنية مسجلة بالإذاعة السودانية، وألفت أغنية وطنية تحمل اسم (بلدي الحبيبة الطيبة)”.
ولصلاح (4) مؤلفات تختلف مواضيعها فكتاب (ذكر وحب وروح) فصل فيه المدائح الصوفية والرثاء، و(الشاعر المغني) خصصه للهجاءات والوطنية، أما كتاب (الكاجبارا والكنوفيرا) الذي عكف في كتابته (40) عاماً جمع خلالها كل المفردات الشعبية التي اندثرت، وهناك (ذكرياتي)، توقف ابن البادية عن الكتابة نهائياً، لأنها على حد قوله شغلته عن مسيرته الغنائية.
لعنة المحلق ورحلة عيون
خاض ابن البادي التجربة المسرحية والسينمائية فكانت مسرحية (لعنة المحلق) أول مسرحية شارك فيها مع الممثلة القديرة نعمات حماد، وكان ايضاً ضمن طاقم فيلم (تاجوج) وهناك العديد منها، وقال إن انطلاقاً من وحدة وادي النيل فكرت في عمل فيلم مشترك مع الاشقاء في مصر فاتفقت مع صديقي المخرج أنور هاشم على ذلك، فكان فيلم (رحلة عيون) الذي أنتج في (1983)م، وضم العديد من نجوم الفن المصري منهم الفنانة سمية الألفي والممثل الراحل محمود المليجي والراحل الفاضل سعيد، بعده توقفت عن العمل بالسينما لأنني لم أجد سيناريواً جيداً، وأضاف: أحضر حالياً لأغنية (نبل وطهر) كلمات الشاعر مصطفى عبد القادر.
جولات ومهرجانات
قام ابن البادية بالعديد من الجولات الخارجية التي كرم خلالها، أشهره تكريم الجمهور الصومالي له بالعاصمة الصومالية مقديشو، وقال نلتُ أيضاً العديد من الجوائز، وكانت جائزة مهرجان الإسكندرية السينمائي في (1973)م أشهرها
اليوم التالي