مِهن ومحن (9)
أكبر مؤشر على تردي الأوضاع في وطني (السودان)، هو أن شرائح واسعة من المواطنين باتت تسيء الظن بالأطباء، وحتى عهد قريب كان حلم كل فتاة أن تتزوج بطبيب، وحلم كل أب أن يصبح عياله أطباء، لأن الأطباء كانوا يتمتعون بأوضاع مالية واجتماعية عالية كانت تغنيهم عن اللجوء إلى الحيل التجارية لاستنزاف مرضاهم، وحال الطب والأطباء الراهن في السودان، يمثل بالنسبة لي «مأساة شخصية»، فقد عشت أكثر من نصف سنوات عمري خارج السودان وبالتحديد في منطقة الخليج (كثيرا ما أقف أمام شاب قطري في موقع مسؤولية لقضاء أمر ما، وفور شروعه في توجيه الأسئلة الروتينية إليّ، أفحمه وأسكته بالقول: أنا عشت في قطر أكثر منك.. بل عشت فيها أكثر من نصف سكانها الأصليين – أخذا في الاعتبار أن شريحة الشباب في قطر تمثل أكثر من نصف السكان).
المهم أن حلم العودة الى السودان نهائيا ظل يراودني طوال عدة سنوات، ومن البديهي أن كل إنسان يحس بالطمأنينة في بلده حيث أهله وأقاربه وأصدقائه من الجيران وزملاء الدراسة والعمل، وقد ساءت علاقتي بعيالي في السنوات الأخيرة لأنني أرفض قضاء إجازتي السنوية في أي مكان غير السودان، ولكن وكلما قضيت في وطني فترة قصرت أم طالت من الزمان، كلما ضعفت عندي الرغبة في العودة النهائية إليه. فكلفة المعيشة في السودان أعلى من كلفتها في أبو ظبي، والطقس قطعة من جهنم لعشرة أشهر في السنة، ومرافق الخدمات العامة منهارة أو اختفت، ولكن أمر كل ذلك هين، فما زال عشرات الملايين يعيشون في ظل تلك الظروف ويتآنسون ويتناسلون ويضحكون، ولكن ما يخيفني هو أنني ابن آدم وبالتالي معرّض لابتلاء المرض، ولا يعرف التاريخ إنسانا عاش ثلاث سنوات من دون أن يعاني من المرض، وما شاهدته وسمعته من تردٍ مريع في الخدمات الطبية في بلادي، هو الذي يجعلني أصرف النظر عن فكرة العودة إليه «نهائيا».. والتردي في تلك الخدمات لا يُعزى فقط لانعدام مُدخلات العلاج، بل في أن شريحة كبيرة من الأطباء صارت تتاجر بخبراتها ومؤهلاتها، فالمستشفيات الحكومية لا يغشاها إلا شخص بعقلية «بايظة بايظة»، لأنه لا يملك المال للاستفادة من الطب التجاري، والعيادات والمستشفيات الخاصة صارت تستعين بأطباء بسعر التكلفة، بمعنى أنها تتفادى قدر المستطاع توظيف الأطباء المهرة لأنهم يطالبون بأجور عالية، فلا يبقى أمام الطبيب الحاذق إلا أن يفتح عيادة خاصة، وبما أن هذا النوع من العيادات صار تجارة رابحة، فقد دخله أناس لا علاقة لهم بالطب، وقبل أسابيع تم إغلاق أربع مجمعات طبية يعالج الناس فيها سباكون وباعة خضراوات وشاورما، وصينيون يأتون بأدوية من وراء ظهر السلطات الصيدلانية ويكتبون الوصفات باللغة الصينية لصيادلة صينيين، ويصرف المريض أدوية وهو لا يعرف حتى «تاريخ انتهاء صلاحيتها» أو مكوناتها.
أطلت الحديث عن الطب والأطباء في السودان لأنه وطني ولأنني أعرف شعابه وأهله، ولكنني أعرف أن حال الطب التجاري في كثير من بلدان العالم الثالث- ومعظم الدول العربية من هذه الفئة- لا يبعث على الطمأنينة، ولأنني عجنت وخبزت منطقة الخليج فقد ذقت فيها المر من أطباء «الشنطة»، وصرت بعكس معظم الناس أثق بالمستشفيات الحكومية في المنطقة أضعاف ثقتي بالعيادات والمستشفيات الخاصة، وسأحاول أن أشرح لكم «لماذا» غدا إن شاء الله.
[/JUSTIFY]
جعفر عباس
[email]jafabbas19@gmail.com[/email]