السودان السياحي.. إن شاء الله يعجبكم!
أذكر ربما نهاية ثمانينيات القرن الماضي أن إدارة العاصمة استوردت (بصات جديدة) لفك أزمة المواصلات الخانقة (جداً) حينها، لكن يبدو أنها استكثرت جدتها وحداثتها ومقاعدها المتسعة والوثيرة على غمار الناس أمثالنا فوضعت (طاقية) (قرش) على التعرفة الجارية وقتها، ولكي تبرر الزيادة على التعرفة أطلقت على (البصات) لقب من النوع (أبو كديس)، إذ سمّتها بالبصات السياحة.
ومما يُحكى من (سخريات الغبش) على ذاك المصطلح الجديد (سياحي)، أن أحد ظرفاء ضاحية (جبرة)، ركب (السياحي) لأول مرة، وكعادته نفح الكمساري ثمن التذكرة (قرشاً)، لكن الأخير احتج وأرغى وأزبد في وجه صاحبنا وطالبه بقرش آخر، إذ أن تذكرة السياحي أعلى بالضرورة من تذكرة (العادي غير السياحي)، فلم يجد صاحبنا بُداً من الامتثال للتعرفة السياحية، خاصة أنه لم يجد مساندة من (الركاب) الآخرين، ويبدو أن هذا أزعجه أكثر من (القرش الزائد)، فأضمر سخرية على الكل، وانتظر حتى وصل محطته، ولما هم بالنزول خاطب كل الركاب بصوت عال (أها إن شاء الله البلد عجبتكم)، فضجوا ضاحكين وانصرف هو إلى شأنه.
منذ ذلك الزمان وإلى الآن (كنكش) الإدارات المحلية كلها، والمواطنون الثوّار الأحرار، العمال منهم والتجار في مصطلح (سياحي) حتى أوسعوه استهلاكاً فرط استخدامه، فكُتب على أكشاك المشروبات والساندوتشات والصحف، و(كشكش) على صناديق الورنيش، وانكب على (صواني) بائعات التسالي والترمس (والكبكبي)، ثم انسل من لدنها مارقاً إلى لافتات مكاتب المحامين، إذ روى لي أن أحدهم علق لافتة مكتوب عليها (مكتب المحامي والموثق فلان الفلاني السياحي) قبل أن يحتج عليه زملائه، فيضطر إلى إنزالها من عليائها إلى حضيض السوق.
الغريب في الأمر، أنه حتى نحن معشر الصحفيين لم ننج من ابتلاءات السياحية، فأسس بعض رهطنا جمعية باسم (الصحفيين السياحيين). لكن كل ذلك يبدو هيناً وليس عصياً على التدارك والاستغفار كذاك الذي تفعله الولايات، فبعد مهرجانات السياحية المتواترة في البحر الأحمر، أبت نفس ولاية كسلا إلاّ أن (تسوح) معها، ثم كانت جنوب درافور على الموعد لتجد أمامها الجزيرة، وها هي السياحة تتنزل أمس الأول من مستواها الإدراي الأعلى (الولائي) إلى الأدنى (المحلي) بعد أن جاءنا خبر يقين أن محلية شندي تنتظم ونتخرط كلها في مهرجان النيل للسياحة والتسوق الثاني.
فما الذي حل بالبلاد وعبادها يا ترى حتى يعتقدون فجأة ومباغتة أنهم (سياحيون) إلى هذه الدرجة، بينما الحقيقة تقول: إن الأمر كله يبدو كتلك البصات السياحية، ولن نزيد، لكننا نسأل الإدارات المحلية السياحية كلها (إن شاء الله تكون البلد عجبتكم)؟
الحصة الأولى – صحيفة اليوم التالي