إيقاع الكابوس المصري: غربة الشرفاء وسقوط العرب
كثيراً ما تتهم قناة «الجزيرة» بتصيد سقطات النظام المصري (وما أكثرها) بعكس فضائيات أخرى ناطقة بالعربية تتصنع شيئاً من الحياد بين النظام وضحاياه، وتدير وجهها لفضائحه وكبائره (إلا حين يتعلق الأمر باعتقال الصحافيين الغربيين). كان ملاحظاً على سبيل المثال، غداة إطلاق سراح صحافيي الجزيرة، أن الجزيرة العربية لم تسرف في إبراز الخبر، بينما جعلته معظم القنوات الغربية على صدر نشراتها، وأفردت له مساحات واسعة.
ولكن الأمر اختلف الأسبوع الماضي، حين لم يتح النظام حتى أكثر القنوات تمنعاً وحذراً مجالاً لإدارة الوجه. بعد أن برأ القضاء المصري الشامخ جداً أكابر مجرمي نظام مبارك، وعلى رأسهم وزير داخليته، بعد أن حكم على الناشط المدني علاء عبدالفتاح بالسجن، لا لذنب جناه سوى ممارسة حقوق كفلها حتى دستور السيسي. كانت هذه رسالة واضحة عن طبيعة مصر المختطفة بليل كما يريد الخاطفون: إنها بلد لا مكان فيه للشرفاء المتمسكين بكرامة الشعب، بل مرتع للقتلة والمجرمين وناهبي قوت الشعب. هي بلد لا يسأل فيها القاتل والسارق والمعتدي، أما كل من يمارس حقه في الاحتجاج على هذا الإجرام فهو «إرهابي»، يحاكم بالسجن بعد أن يعاني ويلات التعذيب، هذا إذا كان محظوظاً بحيث ينجو من القتل قنصاً أو دهساً.
وقد كان واضحاً، حتى قبل التسريبات الأخيرة التي قطعت بها جهيزة قول كل خطيب، بأن مخطط نظام مصر هو تحصين ظلمه واستبداده وفساده ضد أي ثورة قادمة، وهو مخطط يبدأ بالكذب وينتهي به. تم استخدام الإعلام المأجور والمختطف من أجل نشر الأكاذيب وخطاب الكراهية، وتقسيم الناس شيعاً وتدمير التضامن بين طوائف الشعب، ثم استهداف من قتل إعلامياً بالقتل والتنكيل. بدأ الاستهداف بمن يشكل الخطر على الطغيان، ثم ثني بمن توهموا أن الهدف كان بالفعل تمهيد الطريق للديمقراطية، فنكل بهم وجعلوا عبرة لمن اعتبر.
الخطوة الثالثة هي تعميم مثل هذا النظام الفاجر القاتل على كل المنطقة العربية، بداية بالجيران في ليبيا وغزة. يعبر استهداف ليبيا عن حاجة أنظمة الاستبداد والفساد إلى الموارد لتستديم غيها وفسادها، وتحتاج إلى الحروب الخارجية لإلهاء الشعب عن المطالبة بحقوقه، وتحتاج لقمع المغضوب عليهم حتى تتاجر بذلك عند الأسياد، وهو تذكير بأن أنظمة الفساد هي أنظمة سرقة. ولكن حتى بمستوى السابق من أنظمة البطش والإجرام، فإن من أكثر علامات الانحطاط عند الأنظمة والجماعات استهداف الفئات المستضعفة عديمة الحيلة، والتجرؤ على العاجز عن الدفاع عن نفسه، وفي نفس الوقت التذلل للأقوياء والركوع تحت أقدامهم. وموقف النظام المصري من غزة المحاصرة هو واحدة من سمات هذا السقوط والانحطاط. فنظام مصر يعلم قبل غيره استحالة تصور أن غزة المحاصرة ستفتعل معركة مع الجارة مصر، لأن هذا يكون انتحاراً، حتى لو توفرت الرغبة والدافع له. فهذا اتهام يتجاوز حد المعقول، تنزه عن مثله حتى نظام مبارك الذي لم يلمح مجرد تلميح إلى استهداف فلسطيني لمصر. فمن الاحتقار لشعب مصر قبل شعب فلسطين أن تتهم حماس بأنها هي مهندس ثورة الشعب في مصر، وأنها سبب ما جناه جيش مصر على نفسه من فشل وتدمير ذاتي.
ولا تفسير لهذا الموقف السيريالي إلا أن نظام مصر، وقد تقطعت به السبل، أراد أن يستنجد بأبناء العم في الشقيقة إسرائيل، فيتولى نيابة عنهم خنق غزة وإخضاع حماس وتركيع السلطة الفلسطينية، فينال رضاهم وشفاعتهم في واشنطن وغيرها. فهو يستأسد على غزة المحاصرة منزوعة السلاح، ولا يجرؤ على أن يرشق إسرائيل ولو بنصف كلمة. فقد جمع تصرف القوم المخازي حتى صدق فيهم قول المتنبي في سلفهم –المظلوم بالمقارنة- في حكم المحروسةً.
ليس هذا للأسف كل البلاء ولا غايته، ولكن ما يجعل الحليم حيرانا هو ما يظهره بعض المصريين من رضى لهذه الجرائم المركبة، بل واستحسان لها. ولا يقتصر هذا على إعلام يضاهي ما يطلق عليه في بريطانيا «صحافة البالوعة»، ولكن هناك «مفكرين» و «مثقفين» وشخصيات عامة كان لها وزن (تجاوزاً، فمن هو عمرو موسى لولا مبارك؟) سقطوا السقوط المدوي بتأييد واستحسان وتبرير القتل والتعذيب، أو الزعم بأن شيئاً من ذلك لم يحدث. أما أحكام الإعدام بالجملة، فهي من فعل «قضاء مصر الشامخ العادل».
لم يتوقف الأمر هنا، بل إن قطاعات واسعة من العرب العاربة خارج مصر تؤيد هذه البربرية الفاشية وتحتفل بها. فقد قرأت لكثير من المثقفين والمفكرين العرب، واستمعت كذلك لعدد وافر منهم، وهم يتبارون في تبرير فاشية السيسي وبربرية بشار الأسد، ويستصغرون جرائمهم بحجج أوهى من بيت العنكبوت. بل إنني قرأت لسودانيين كثر وهم يحتفلون بوأد الديمقراطية في مصر، والفتك بالمعارضين السلميين، في الوقت الذي يطالبون فيه في بلدهم بإعطاء المعارضة المسلحة قيادة الساحة السياسية. وقد قلت لبعض من صرح بمثل هذا الاستحسان لجرائم السيسي في حضرتي: إذا كان ما يحدث في مصر يرضيكم، فلماذا تحتجون على نظام البشير؟ ففي السودان على الأقل، الحكومة تدعو المعارضة للمشاركة في انتخاباتها المزورة، بينما السيسي أعلن المعارضة تنظيماً إرهابياً، مما يعني أن كل عضو فيها يستحق القتل بدون محاكمة. وفي الخرطوم، المعارضون في الغالب آمنون في بيوتهم، ومقرات أحزابهم مفتوحة ترفرف عليها راياتهم، بينما كانت مقرات الإخوان المسلمين تحرق حتى ومرسي ما يزال في القصر الجمهوري، وقد حوكم بعض من نجا من حرقها بالأمس بالإعدام، مما يذكر بأن من حرق ومن يحاكم اليوم هو الشخص نفسه. وهل يعني هذا أن المعارضة السودانية تنوي، إذا جاءت للحكم، أن تفعل ما فعله السيسي وقضاؤه العادل من مجازر وقتل وذبح ودون كيشوتية واستئساد على الضعفاء، وخزي وتخاذل أمام الأجانب، إما طمعاً في أموالهم أو جبناً عن مواجهتهم؟ إذا كان الأمر كذلك، فسنكون من أول مؤيدي استمرار البشير في الحكم.
إن الكارثة الأخلاقية التي نزلت بالأمة والمنطقة هي أفدح من مجرد قتل الأبرياء وإعادة أنظمة الاستبداد والفساد والعمالة إلى سدة السلطة. فهذا أمر تعودنا عليه. ولكن أمثال هذه الأنظمة واجهت الاستنكار والإدانة من قبل قطاعات واسعة من الشعب والنخب الواعية، رغم أن من النخب من تمسك بأهدابها بدوافع مختلفة، من ممانعة مفترضة ودفاع عن قيم ليبرالية مزعومة. ولكن معظم من ناصر هذه الأنظمة بهذه الدواعي، أصيب بخيبة الأمل، لتقصيرها فيما تصدت له أولاً، ثم لأنها انقلبت على من ساندها من ليبراليين ويساريين، ففتكت بهم، مستعينة عليهم بعزلتهم عن الجماهير التي لم يرضها تمسح هذه الفئات العاجزة بعباءة الحكام. ولكن هذه الأنظمة الجديدة لا تجد معارضاً إلا ضحاياها، كما أنها تعرت من كل سند أخلاقي، إلا سند الفساد والاستبداد. فهي لا تدعي مقاومة أو ممانعة، ولا تعد بليبرالية أو تقدم، بل هي تتوحد كلها على قمع الشعوب وإخضاعها وإذلالها، تماماً كما كان شأن الاستعمار فيما سبق.
ولو استقر الأمر لمثل هذه الأنظمة، فإن الأمر لن يقتصر على تجميل نظام مثل نظام البشير بالمقارنة، بل ستبدو داعش بالمقارنة على أنها حركة تحرير من مثل هذا الفساد العاري من كل قناع. لقد سقطت الأمة العربية سقوطاً لا قيام بعده لو أصبح خياراتها إما السيسي أو البشير، وإما حفتر أو داعش.