في تنزيه الدين عن غوايات السياسة: دروس أردنية
تفتخر حركة الإخوان المسلمين في الأردن بولائها للعرش الهاشمي في الأردن منذ نشأتها في الأربعينات، ومساهمتها بذلك في استقرار الأردن. وهو زعم صحيح من جانب، وإدانة للذات من جانب آخر. من ناحية الصحة، لا شك أن مواقف الحركة ساعدت – بل كانت عاملاً حاسماً- في استقرار الأردن. وقد كان لافتاً أثناء استقصائي أحوال الدول الإسلامية خلال العقود الماضية من منظور الاستقرار السياسي، تميز ثلاث دول (ماليزيا والكويت والأردن) عن كل البقية، ليس فقط باستقرار أنظمة الحكم فيها وتجنبها لأي انهيار أو انقلاب، بل أيضاً بما نعمت به بأقدار متفاوتة من الحريات واحترام الحقوق. وبالتدقيق اتضح أن اشتراك هذه الدول في خاصيتين: أولاهما أن أنظمتها ملكيات دستورية أو شبه دستورية، وثانيتهما تمتع الحركات الإسلامية فيها بالوجود القانوني منذ الاستقلال، مما يبرر الربط العلمي بين استقرار الأنظمة وشرعية وضع الحركة الإسلامية فيها.
بالطبع تتميز ماليزيا بحكم دستوري ديمقراطي، ينفرد فيه الملك والسلاطين برعاية شؤون الدين، بينما تتولى الحكومة المنتخبة شعبياً كل شؤون الحكم في إطار فدرالي. وقد ظل الحزب الإسلامي الماليزي (باس)، يتولى حكم ولايتين في الشمال خلال معظم فترات الاستقلال، رغم أنه حزب محافظ أقرب إلى السلفية. ويفرض في تلك الولايات حظر الخمور وغير ذلك من الإجراءات، وإن كانت الحكومة الفدرالية أوقفت محاولات تطبيق الحدود فيها. أما في الأردن، فإن الحركات الإسلامية تتواطأ في واقع الأمر مع نظام أوتوقراطي، وقد حمته من موجة الثورات القومية التي أودت بالملكيات والنظم شبه الليبرالية في العراق ومصر وسوريا وليبيا واليمن والسودان، وأوشكت أن تطيح بها في المغرب.
برر إسلاميو الأردن موقفهم بكون الأردن «دولة مواجهة» قد يخدم أي اضطراب فيه إسرائيل. ويشبه هذا حجة معاوية في تبرير ممارساته البذخية أمام عمر بأن الشام إقليم مواجهة و»ممانعة» مع البيزنطيين، مما استلزم مظاهر فخامة وهيبة كأداة ردع. ولن نكون أكثر تنطعاً من عمر تجاه مبررات إخوان الأردن، ولكن… من الصعب إغفال كون الاصطفاف مع النظام اقتضى ثمناً غير يسير من المداهنة والسكوت عن الحق، وفوق ذلك مواجهات مع قطاعات أخرى في المجتمع الأردني لها مطالبها واعتراضاتها. وكما حدث في مصر عندما وقف الإخوان مع انقلاب تموز/ يوليو 1952، وارتضوا حل كل الأحزاب سواهم، فإن هذا الوضع خلق عزلة لم يجد فيها الإخوان نصيراً عندما انقلب عليهم الانقلابيون. بالقدر نشه فإن إخوان الأردن وجدوا أنفسهم في عزلة نسبية حينما تعرضوا للإقصاء لمعارضتهم اتفاقية وادي عربة، وذلك بعد سكوت طويل على الوفاق السري بين الأردن وإسرائيل. وهم يواجهون اليوم نفس المشكلة والنظام الأردني يضرب بعضهم ببعض.
جملة اعتراضية: إننا نشهد وقائع انتحار متلفز للنظام الأردني، لأنه بالدخول في مواجهة لا مبرر لها مع الإسلاميين، ومحاولة لعب دور متعهد قتال على جبهات عدة، والانضمام إلى المحور الاستئصالي الجديد (رغم أن النظام ظل يسوق نفسه على أنه داعية سلام حتى من العدو الصهيوني)، فإنه يستورد كل صراعات المنطقة إلى ساحته الداخلية، ويضع على عاقته أعباء لا يطيقها، وستكون مدمرة لكيانه السياسي. ولكن ليست هذه مسألتنا هنا.
محور التركيز هنا هو ضرورة تنزيه الدين عن منزلقات المراوغات السياسية والتحيزات الطائفية والحزبية ومسارات الهوى. فللسياسة ضروراتها وإكراهاتها من مساومات وتسويات مع الآخرين، كما أن التنظيمات السياسية لها ضرورات بقاء تحتم عليها المداهنة والتحالفات، ولها مصالح كيانية لا بد من مراعاتها. ويوشك التحيز لمصلحة التنظيم على حساب المبادئ أن يجعل التنظيم هو المعبود، خاصة حين يقتضي ذلك الصمت عن المنكر والإمساك من الصدع بالحق بحجة أن ذلك ضد مصلحة التنظيم (أو «الدعوة»). وقد كنت فصلت بإفاضة أكثر على صفحات هذه الصحيفة في تأملات حول الآية الكريمة: « وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»، وذلك في إطار السجال الذي دار حول كتابي «الثورة والإصلاح السياسي» (1995)، واعتراض البعض حول التصريح بما يجب السكوت عنه.
ملخص تلك التأملات أن سياق الآية يستصحب عجز الكل على القيام بهذا الواجب، وليس فقط لنقص العلم وكثرة المشاغل، بل كذلك لتضارب الالتزامات. فليس بوسع الدبلوماسي مثلاً انتقاد ممارسات الدول الأخرى علناً، لأن هذا قد يحسب على الدولة التي يتحدث باسمها، مما قد يفجر أزمات سياسية. كذلك فإن التنظيمات السياسية تفرض على منتسبيها الالتزام بـ «خط الحزب»، لأن مقولاتهم لا تحسب عليهم وحدهم. وهذا يفقد الحزبي التجرد الذي لا قيام لواجب الأمر بالمعروف بدونه. وكان البخاري رحمه الله لا يأخذ الأحاديث عن أصحاب التحيزات السياسية لشبهة أن المتحيز يميل إلى دعم قضيته.
يعيدنا هذا إلى السؤال المحوري حول ضرورة تنزيه الخطاب الديني عن المساومات السياسية، وعلاقة ذلك مع ما درج في الخطاب الإسلامي الحديث عن استحالة الفصل بين الديني والسياسي بحجة أن الإسلام، كما قيل: «دين ودولة، مصحف وسيف… وأخلاق وسياسة، واقتصاد اجتماع، وقضاء وكل شيء في هذه الحياة». ولا شك أن هذه المقولة فيها كثير من اللبس، مثل المقولة بأن الإسلام أفتى في كل شيء، أو أن الإسلام فيه حلول لكل المشاكل. صحيح أن تعاليم الدين جاءت لتنفذ في هذه الحياة الدنيا، وإلا فلا معنى لها. ولكن ليس صحيحاً أن تعاليم الدين اشتملت على تفاصيل لكل حالة ونازلة، بل بالعكس، نجد القرآن نهى المؤمنين عن طلب الفتوى في كل شيء («لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم»)، وأكد ذلك الرسول الكريم حين نهى عن كثرة السؤال. وهذا يعني أن المؤمنين كانوا مطالبين بالاجتهاد حتى والوحي ينزل. وعليه بالقطع ليس في نصوص الإسلام إجابات حاضرة لكل سؤال، وإنما كان هناك تشجيع على المبادرة، وهذا هو مناط التكليف واستباق الخيرات. وقد نص على ذلك الحديث الثلاثون من الأربعين النووية: «إِنَّ اللهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودَاً فَلا تَعْتَدُوهَا وَحَرَّمَ أَشْيَاءَ فَلا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلا تَبْحَثُوا عَنْهَا».
من جهة أخرى فإن مقولة أن الإسلام طرح حلولاً لمشاكل الناس لا تعني أن المتحدث هو مستودع هذه الحلول، أو أن التنظيم المعني هو الموكل بها. فكما أسلفنا، إن القرآن سن قواعد عامة، كما في قوله تعالى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، وقوله جل وعلا: «فاستبقوا الخيرات». وفي كل هذه الأمور مجال واسع للاجتهاد والتسابق. وحتى تعابير مثل «المعروف» و «المنكر» لم تعرف في القرآن تعريفاً خاصاً، كما لم يعرف «العدل» أو «الخيرات»، وإنما استصحب أن هذه قيم معلومة لعامة الناس بالضرورة. فالمنكر هو ما أنكره الحس السليم والمعروف ما عرفه، وأصحاب الأمانات أمر تحدده الأعراف المتوافق عليها.
إذن لا يعني شمول الإسلام تعطيل العقل، بل بالعكس، يستوجب توظيفه لتحقيق هذا الشمول. كما أن وجود حلول إسلامية لا يعني بالضرورة أن التنظيمات التي تسمي نفسها إسلامية هي التي تملك هذه الحلول. وأهم من كل ذلك، لا يمكن القيام بأهم واجب ديني، وهو الصدع بالحق، دون التجرد عن الانتماء. فكم عالم (وتنظيم) كتم الحق خوفاً أو طمعاً. ولنا عودة بإذن الله.