جعفر عباس

أمي والمهمة المزدوجة (2)

تحدثت بالأمس عن أن أمي التي انتقلت إلى جوار ربها قبل 4 أعوام، وأنها من تولت مهام الأم والأب في رعايتنا لسنوات طوال، بينما كان أبي – تغمده الله بواسع رحمته – يعمل في مدينة بعيدة في وسط السودان، وكلما تذكرت حجم الأعباء التي كانت تتولاها أمي اعتبرت اي اهانة او استخفاف موجه نحو أي امرأة إساءة الى أمي، التي كانت الدعامة الأساسية لبيت فيه ستة من العيال. وأكاد أصيح: كيف يكون للمرأة يوم واحد في السنة يوافق الثامن من مارس من كل عام، وهي سيدة كل الأيام؟
لم تكن أمي في كل ذلك نسيح وحدها، بل كانت معظم نساء بلدتنا يتولين أعباء تربية العيال في غياب الآباء، فالمنطقة النوبية التي أنتمي اليها طاردة لأبنائها لضيق الأراضي الصالحة للزراعة، لأن الصحراء الكبرى تحكم قبضتها على معظم الأراضي المحيطة بالنيل كما أن معظم أراضي المنطقة، حجرية بل ان جزءا كبيرا من المنطقة النوبية يعرف بـ«أرض الحجر»، وبالتالي لم يكن امام معظم الرجال من سبيل سوى الهجرة الى مصر او الى وسط السودان.. وهكذا ما كنت تجد في أي حي اكثر من رجل واحد او اثنين.. وبقية السكان أطفال ونساء، ولكن التكافل والترابط الاجتماعي كان قويا بدرجة انه لم تكن هناك «شؤون خاصة»، فأمور الزواج والختان والمرض والسفر والدارسة يتم البت فيها جماعيا.. وإذا انهار جدار بيت أو سقط سقفه، هب الرجال من كل حدب وصوب للقيام بأعمال الترميم والصيانة اللازمة.. في الأمسيات كانت نساء الحي يجتمعن في أحد البيوت للونسة، وكان البعض منهن رواة للحكايات الشعبية والقصص الخرافية، وكنا نتحلق حولهن لنسمع حكايات أبطالها الغول والعفريت والجن الأحمر.. وكل وقائعها تدور بالليل.. والليل عندنا في شمال السودان حيث لم تكن هناك كهرباء يتميز بظلام كثيف مرعب.. ظلام كالدوامة يدور ويغلي فتفقد توازنك وأنت تمشي فيه، وكانت في طرف كل حي خرابة يتخذ منها الجن قيادة قطرية ويدبرون المقالب المرعبة لبعض السذج الذين لم يحفظوا آية الكرسي.. وإلى يومنا هذا وأنا أخاف من الظلام بدرجة او بأخرى.. ربما هو ليس خوفا ولكنه على الأقل يسبب لي ضيقا شديدا.. أعرف ان عفاريت الإنس هم مصدر المتاعب، وأن الغول وهم مثل التضامن العربي، ولكن الظلام ارتبط في عقلي الباطن بكل ما هو مخيف.
المهم انني نشأت في مجتمع كانت النساء يقمن فيه بكل شيء تقريبا: الزراعة ورعاية الحيوانات المنزلية والطبخ والنظافة ورعاية المرضى.. كنا نستيقظ مبكرين لأن نساء الحي كن يفدن الى بيتنا حاملات الصفائح والجرادل للتزود بالماء، فقد كانت في بيتنا المضخة اليدوية الوحيدة في الحي لتوفير الماء شبه النظيف، وكان لتلك المضخة ذراع يدوية طويلة يتم تحريكها الى أعلى وأسفل لضخ الماء عبر فوهة كبيرة.. وفي مجتمع كهذا عليك مساعدة المرأة العاجز بأن تتولى عنها ضخ الماء ثم توصيله الى بيتها.. وكان علينا ونحن صغار ان نحلب الماعز، ثم نخرج بها كي ترعى في الأعشاب الطفيلية التي تتكاثر في جزيرتنا النهرية بسبب وفرة المياه الجارية والجوفية.. وكلما خرجت الى مناسبة من مناسبات النفاق الاجتماعي مرتديا جاكيتا وكرافتة، ضحكت سرّا كلما تذكرت ان من بين المهارات التي اكتسبتها في طفولتي توليد الأغنام.. نعم كنت أعرف أن المعزة الفلانية (ولكل معزة اسم) داهمها المخاض وأقوم بمساعدتها في الولادة.. يعني كلما رأيتم ابو الجعافر على شاشة تلفزيون او في منتدى وهو يتكلم وكأنه عبقري زمانه تذكروا انه «داية/ قابلة» أغنام مؤهل.. وما خرجت به من تجربة تلك الطفولة هو ضرورة الاعتماد على النفس وأن «الناس لبعضها» ومن يَعِن يُعَن.

jafabbas19@gmail.com