عبد الجليل سليمان

عيزانا والهجرة ومريود والحمض النووي 1-3

تتحدث الخطابات السياسية المطروحة من قبل الأحزاب الكبيرة كافة وتوابعها – قلت الخطابات وليست البرامج – عن ما يسمونها بالهوية السودانية، وهي حالة ظلت ولا زالت تؤرق الطبقات الحاكمة والمثقفة دون سائر السودانيين العاديين المتصالحين مع أنفسهم، لكن حتى هؤلاء تعرضوا جراء التزييف المتعمد أو نتيجة لعدم التحري الأكاديمي والبحثي الدقيق الناجم عن الدفع بالافتراضات إلى مقام الحقائق الموثوقة، تعرضوا إلى حالة عامة من عدم التوازن والاتزان في ما يتصل بالهويات الثقافية والإثنية، فمرة يجدون أنفسهم عرباً أقحاحاً ومرة كوشيين وتارة أحباشاً، وهكذا ظلت الهويات والثقافات السودانية تتعرض إلى هزات عنيفة زاد طينتها بِلةً حالة من الإنكار غير الحميد مردوفة بحالة من الانتساب غير الحميد أيضاً.

الباحثون في التاريخ- على إطلاقهم – لا يملكون الحقيقة الكاملة ولا ينبغي للمؤرخ أن يعتقد ذلك، بل عليه أن يدفع بافتراضات معززة بشواهد وحيثيات موضوعية، ثم لاحقاً يأتي الآثاريون وعلماء الوراثة ليعززوا من افتراضاته ويرتقوا بها إلى الحقيقة أو يطيحوا بها أسفل سافلين.

وفي ذهني كل ذلك، التحقت بمقال عبد الحفيظ مريود الموسوم بـ (هل كان السودانيون أحباشاً؟) وهو مقال واسع الانتشار والقراءة وردود الأفعال، كون مجترحه مثقفاً مشهوراً بالتحري والدقة في ما يكتب.

مقال مريود الموضوف بعاليه سلط الضوء على المدينة الأثرية التي أسماها بروف (علي عثمان محمد صالح)، مدينة عيزانا نحو 15 كيلومتراً شمال (جبل أم علي) في ولاية نهر النيل، وافترض مقال مريود أن هذا الاكتشاف الأثري (وأتفق معه) في ما ذهب إليه، ربما يعيد ترقيع النسق الحضاري، ويجيب عن أسئلة الهوية ويساهم في التخطيط لمستقبل السودان.

كنت قبل هذا وذاك، اطلعت ونشرت على نطاق واسع ترجمة الراحل (جمال محمد أحمد) لـ (نقش عيزانا) الشهير، الذي يوثق فيه غزوة عيزانا لمروي والسيطرة عليها، إذ حكمها ومن ثم سلفه الأحباش لأربعة قرون وربما أكثر.

وبناءً على ذلك النقش الشهير، مقروناً بهذا الاكتشاف الأثري المهم، وعطفاً على مقال (مريود) الثمين وبالغ الأهمية، حدثتني نفسي أن أتطرق اليوم وما يليه، إلى بعض التفاصيل ذات الصلة بالهوية، ضمنها افتراض بروف عبد الله الطيب – رحمه الله- بهجرة الصحابة إلى السودان، اعتماداً على معلومة جغرافية خاطئة، اعتقد بصحتها الكثيرون كونها صادرة عن علامة في مقام (الطيب)، بينما دفع بها هو كفرضية قابلة للإثبات والنفي، وسنعود إلى ذلك لاحقاً.

لكننا نريد أن قبل الاستطراد أن نستدرك بعضاً ممن ورد في نقش عيزانا الذي ربما خصصنا له مقالاً كاملاً في الأيام المقبلة، يؤرخ النقش المشار إليه إلى (غزوة مروي)، فيقول: “أنا نجاشي النجوش عيزانا ابن علي أميدا وملك أكسوم وحمير وسبأ وريدان وساها وصالحين وسيامو والبجا وكاسو حاربت النوبا لأنهم ثاروا وتباهوا بذلك، وقالوا إننا لن نعبر تكازي [نهر عطبرة]، ثم كرروا الهجوم على مانقورتو والكاسا (الخاسا) والباري وعلى السود والحمر هجموا. لقد حنث النوبا عن قسمهم، وقتلوا جيرانهم، وهاجموا مبعوثينا إليهم وسرقوهم، وقد حذرتهم لكنهم رفضوا الانصياع فحاربتهم على نهر تكازي عند مخاضة (كيمالكي) فلم يصمدوا وفروا، وطاردتهم 23 يوماً قتلت بعضهم وأسرت الآخر”.

نواصل