د.عبد الوهاب الأفندي

في تنزيه الدين عن التسييس: دروس مصرية


لا بد من تقديم هنا بأن أي تناول نقدي لحركة الإخوان المسلمين في مصر لا بد من أن يشفع بتصحيح مهم للانطباعات التي تبثها تشنيعات خصومها التي توحي بأن الإخوان كانوا يحكمون مصر منذ أيام محمد علي، وأنهم تولوا قمع الخصوم وإسكات الأصوات. وهذه كلمة باطل يراد بها باطل. فتهمة الإخوان عندنا هي أنهم قصروا في حماية الديمقراطية وتمكينها والدفاع عنها، بينما خصومهم كانوا وما يزالون سدنة الدكتاتورية، ومن نجح في استعادتها. وليس من طلب الحق فأخطأه، كما قال الإمام علي بن أبي طالب، كمن طلب الباطل فأدركه.
لسنا كذلك بصدد الجدل حول فرية «الثورة» التي قامت على «نظام مرسي»، لأنه لم يكن هناك في حقيقة الأمر شيء اسمه «نظام مرسي» أو «نظام الإخوان» حتى يثور عليه الثائرون. ما كان قائماً وقتها كان نظاماً ديمقراطياً يخضع لحكم القانون ومؤسسات الدولة، واتهام مرسي والإخوان بأنهم طغوا وتجبروا كذب بواح، لأن نفس من كالوا هذا الاتهام، مثل وزيري داخليته ودفاعه، صرحوا علناً بأنهم لم يكونوا في طاعته. فكيف يطغى ويتجبر شخص لا يملك من أمره شيئاً؟ وكيف يكون الإخوان قد «أخونوا» الدولة وتملكوها وقد كانوا عاجزين عن الدفاع عن مقراتهم التي أحرقها البلطجية الذي يحكمون مصر اليوم؟ بنفس القدر، كيف يتهم مرسي وحكومته بفشلهم في حل مشاكل مصر الاقتصادية وغيرها وهم لم يمكنوا من حكم أو سلطة؟
وما حدث من انقلاب على الديمقراطية هو اعتراف من الانقلابيين ومن ناصرهم بالعجز الأبدي عن استمالة الشعب إلى صفهم، لأن من يثق بنفسه لا يتوارى خلف البلطجية والعسكر المارقين عن سلطة الشعب. ولعل أكبر دليل على هذا تهربهم المستمر عن إجراء انتخابات برلمانية حرم على الإخوان خوضها. فهم يخافون الإخوان حتى وهم في السجون!
هذ التوضيحات ضرورية حتى لا تفسر انتقاداتنا لحركة الإخوان بأنها موافقة على الأباطيل التي تساق في حقهم من كل كذاب أشر. فتناولنا هنا يقتصر على وزن ممارسات الحركة بميزان الدين، أيضاً مع افتراض صدق النوايا التي لا نشكك فيها، بل نكلها إلى الله تعالى. وقد كنا تناولنا في الحلقة الماضية بعض إشكاليات مقولات الحركة الإسلامية المعاصرة في السياق الاردني، وحركة الإخوان هي بالإجماع أم الحركات الإسلامية والنبع الذي استقت منه على اختلاف مكوناتها. وقد بقي «النموذج الإخواني»، رغم نشأة حركات إسلامية مستقلة، في مشرق دار الإسلام ومغربها، هو المهيمن على الساحة الإسلامية. وقد تكون هذه هي المشكلة.
هبت التيارات الإسلامية للتصدي لما وصف بغربة الإسلام وانحساره عن حياة المجتمعات الحديثة، أي ما يعرف بظاهرة العلمنة التي تجلت في المجتمعات الغربية أولاً، انحساراً لنفوذ الدين في الحياة العامة، ثم تراجعه في الحياة الخاصة التي حصر فيها. وهناك نقاشات طويلة ما تزال محتدمة حول هذه التعريفات ومقتضياتها، وليس هنا مجال الخوض فيها. ولكن نكتفي هنا بالإشارة إلى أن تجليات العلمنة في العالم الإسلامي لم تنشأ عن صراعات داخلية واجتهادات دينية وفلسفية، شأنها في الغرب، بل فرضها الاستعمار كأمر واقع قبل أن تحتضنها قطاعات من النخبة وتسوق لها. ساعد في هذا الانهيار شبه الكامل للمؤسسات الدينية التقليدية وعجزها مواجهة تحديات الحداثة. وعندما نهض الشيخ حسن البنا وجيله لمواجهة هذه التحديات، كانت المجتمعات الإسلامية قد انقسمت إلى قيادات دينية بقيت خارج العصر وفاقدة للفاعلية، ونخبة حداثية مهيمنة تركت الدين وراءها ظهرياً وأوشكت أن تذوب في الثقافة الغربية، وغالبية من الشعب غارقة في الجهل والفقر، وعاجزة عن التأثير.
تلخصت استراتيجية الإحيائية الإسلامية الناهضة في بناء نخبة حداثية بديلة، تتمسك بالدين وتطوره ليواكب العصر، وتستعين بالوسائل الحديثة على إحياء المعرفة الدينية ونشرها، وتستنهض الغالبية المهمشة في المجتمع عبر العلم والتوعية لتستقوي بها على النخب المهيمنة المسنودة من قبل المنظومة الاستعمارية. وقد كانت هذه مهمة عسيرة بكل المقاييس، خاصة وأن الفئات التي نهضت للقيام بها كانت في الغالب مجموعات صغيرة متواضعة القدرات والحظ من العلم. فقد كان البنا معلم مدرسة في العشرين من عمره عندما تصدى لهذه المهمة، وكان في معونته ستة رجال كلهم عمال لم ينالوا أي حظ من التعليم، حتى أن بداية الأمر كانت تعليمهم الوضوء للصلاة! وقس على ذلك ما روي عن تجارب أخرى، تصدت فيها حفنة من الطلاب لمهمة حضارية غاية في التعقيد: مهمة فكرية في الأساس، ولكنها ذات طابع روحي أخلاقي كذلك؛ ثم هي مهمة اجتماعية في التنظيم والتعليم والتدريب؛ ثم هي مهمة سياسية في مواجهة القوى المهيمنة من خارجية وداخلية، وتنظيم صفوف «المقاومة». وتتفرع من هذه مهمات أخرى لا حصر لها.
كان جل زاد هذه الفئات في أول أمرها الحماس الديني والنفور الشديد من تجليات المنظومة العلمانية المهيمنة، وما رأوه تحللاً من قيم الدين والتقاليد. ولكن لم تكن لديهم الذخيرة الفكرية لمواجهة الفكر الحداثي، لم يكن هناك سوى زاد محدود من أعمال مفكرين إسلاميين مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثم رشيد رضا وبن باديس وبن عاشور وبعض كتاب عصر النهضة. ولكن هذه لم تكن سوى تأملات مبدئية، حتى لا نقول سطحية، ومحاولات تجريبية لتكييف الواقع الإسلامي في خضم الحداثة. وعليه كان على هذه الحركات أن تنتج فكرها وهي في ميدان القتال إن صح التعبير، فجاءت كراسات البنا والمودودي لتملأ هذا الفراغ.
دخلت هذه الحركات في مواجهات على جبهات متعددة: مع رجال الدين التقليديين، مع النخب الحداثية المهيمنة، وبالطبع مع أولي الأمر بالأصالة والتبعية في بلاد ما تزال ترزح تحت نير الاستعمار. وأدت هذه المواجهات إلى نكسات عوقت إنتاجها الفكري ومساهماتها، خاصة مع اضطرارها للعمل تحت الأرض، أو من داخل السجون. دخلت أيضاً في تحالفات أثرت عليها، خاصة الحلف مع دول الخليج وبعض الكيانات التقليدية في المجتمع، وكان لها ثمنها.
كل هذا يعيدنا إلى النقطة الأساسية في معالجاتنا هذه، وهي كيفية تنزيه الخطاب الديني عن التسييس، أي عن الهوى والغرض الخارج عنه. بداية، فإن مهمة البعث الحضاري للأمة لا يمكن أن تنحصر في حفنة صغيرة من الشباب، كان جلهم محدودي العلم والقدرات والإمكانات، ولا يمكن التعامل مع اجتهادات هؤلاء في شبابهم وفجر الحداثة كما لو كانت قرآناً منزلاً. وفوق ذلك وقبله، لا بد من نظرة نقدية لسوابق التنازلات او التمويهات الدينية في سوق السياسة، كما حدث ويحدث في خضم الاصطفافات السياسية.
هذا بدوره يتطلب وضع الصراعات التي انغمست فيها الحركة في إطارها الأشمل. فليس كل من اصطدم بها معاديا لفكرة الإحياء الإسلامي، وليست كل خطواتها موفقة وخالية من الغرض. نحن نعلم في هذه الحالة أن من استهدفوا الحركة كانوا على خطأ، لأنهم استهدفوا من ورائها الديمقراطية والشعب المصري وكل منابع الخير فيه. ولكن ليست هذه كل الحكاية.
ولنا عودة إن شاء الله.