الطاهر ساتي

كان عظيماً..!!


:: عندما ألزم الأهل بتعليم الأبناء والبنات، وأصدر توجيهاً بتوزيع سكر التموين مقابل التعليم، ثار بعض الأهل وإجتمعوا – سراً – ثم إتفقوا على تقديم شكوى للمفتش الإنجليزي – حين يزور المنطقة – بواسطة ثلاثة من الرافضين..ولأن الشيخ الزبير حمد الملك، عليه رحمة الله، كان حكيماً وذكياً، لم يغضب عندما عرف بمخطط هذا النفر المشاغب..ناداهم – الثلاثة المختارين – قبل زيارة المفتش الإنجليزي بيوم، وكأنه يجهل مخططهم، خاطبهم قائلاً : ( أنا عايز أكلفكم بمهة خاصة وحساسة شوية، طبعا إنتو عارفين شهر رمضان باقي ليه شهرين، وبراكم شايفين السخانة وتعب الزراعة، أنا عايزكم تكلموا المفتش الإنجليزي يخفض لينا شهر رمضان ده لي أسبوع أو عشرة أيام بالكتير، وأصلا هو جاي يسمع شكاويكم، وإحتمال يوافق على طلبكم ويريحنا كلنا)..!!

:: راقت لهم الفكرة، وشعروا بأنهم موضع ثقة الشيخ الزبير شخصياً و إلا لما كلفهم بهذه (المهمة الحساسة)..وافقوا على طلبه و قرروا تأجيل شكوى التمويل مقابل التعليم إلى ما بعد شكوى رمضان.. وجاء المفتش الإنجليزي، وتقدم رئيس الوفد الثلاثي شاكيا : ( بصراحة كده يا حضرة المفتش ما بنقدر نصوم تلاتين يوم في السخانة دي، ولو إختصرتها لينا لي أسبوع أو عشرة أيام تكون علمت فينا خير، دي قضيتنا الأولى، نسمع ردك ونقول ليك القضية التانية)..إحتار المفتش الإنجليزي من الطلب الغريب، ونظر إلى شيخ الزبير بذات الحيرة، فطمأنه الشيخ قائلاً : ( ما تشتغل بيهم، أصلاً التلاتة ديل كلامهم كلو كده)، فغضب المفتش وأمر بحبسهم..ولكن لاحقاً، خيًرهم شيخ الزبير بين تعليم أبنائهم وبناتهم أو تنفيذ أمر المفتش، فأختاروا التعليم ..!!

:: والشيخ الزبير حمد الملك (1902-1989).. لم يكن ملكاً ولا سلطاناً، فالملوك و السلاطين يفضلونها رعية جاهلة ليسطيروا عليها بلا متاعب، ولكن الشيخ الزبير كان أباً للأبناء وأخاً للآباء، بدليل شعار إدارته الأهلية (التعليم أولاً)، ثم (الإنتاج)..فالتعليم – في ذاك العهد الإستعماري – كان رجساً من عمل الشيطان في آذهان أهل السودان جميعاً، ولكن بالترغيب والتعليم نشر الشيخ الزبير حمد الملك التعليم في ربوع دنقلا..وبعد أن أطلق ثورة تعليم البنين في العام (1935)، أتبعها باطلاق ثورة تعليم البنات..ولأن تعليم البنات كان محرماً في أذهان العامة، بدأ الشيخ الزبير بآل بيته وعشيرته عبر (مدرسة إيماني الأولية بنات)، وتعمد أن تتوسط المدرسة قرى المنطقة وعلى بعد أمتار من منزله، ليكون عليها رقيباً..وبهذا الجهد صار أبناء وبنات دنقلا الأوفر حظاً في التعليم..!!

:: ولأنه من الأوائل الذين درسوا القانون بكلية غردون في العام (1926)، يضرب الأهل بعدل محكمته المحلية الأمثال إلى يومنا هذا..وهذا ليس بمدهش لشيخ إستمع إلى مائة شاهد دفاع ليحكم في قضية ساقية بقرية كابتود – إحدى قرى دنقلا – كأكثر شهود دفاع وإتهام في تاريخ المحاكم السودانية..وبحكمته وحنكته كان يقرب المسافة ما بين (القانون والعُرف)، ولم يكن في هذا التقريب ظلماً ولا محاباة.. وفي العام (1937)، أول مستشفى بدنقلا، بفكرته وجهده، أما المشاريع الزراعية التي أسسها وساهم فيها فهي على إمتداد النيل تعكس (عظمة رجل)..وعندما يحتشد أهل دنقلا بقرية إيماني في السادس من إبريل، بتشريف رئيس الجمهورية، لإحياء ذكرى الشيخ الزبير حمد الملك، فهم يعلمون بأن لهذا الشيخ في وعيهم ..(دين مستحق)..!!