هل أنا ناجح؟ لكم القرار
لاحقني المهندس السوداني محمد محجوب عبدالرحيم بعدد من الرسائل والاتصالات الهاتفية، لأسهم في كتاب يعتزم إصداره بعنوان «قصة نجاحي»، يتناول فيه سير شخصيات سودانية، «ناجحة» في تقديره، وطلب مني أن أكتب عن «نجاحي»، وفكرت في الأمر طويلا: هل أنا ناجح بدرجة أن يطلب مني شخص ما تسجيل تجربتي علّها توقد شمعة في طريق بعض شباب الجيل الصاعد؟ سأجيب على هذا السؤال لاحقا، بطريقة ملتوية إلى حد ما، والسبب في ذلك أن النجاح كلمة مطاطية، وقيمة مجردة لا يوجد مكيال متفق عليه لقياسها، تماما مثل «مشهور» وهي الكلمة التي يوصف بها الشخص ذائع الصيت والمعروف على نطاق واسع، ولكن هناك «شهرة» تنجم عن أفعال وأقوال شائنة أو غير لائقة. ومثل «السعادة»!! لم يمر بي تعريف متفق عليه بشأنها: هل السعيد صاحب المال آم مستور الحال صاحب العيال؟ هل السعيد موفور الصحة و«مفلس»، أم – مثلا – الذي يعاني من شلل جزئي ويعيش حياته بالطول والعرض من دون طلب العون من أحد؟
ونسمع أن فلانا رجل أعمال ناجح!! ناجح بمعنى ماذا وبأي منظور؟ هل نجح لأنه مسنود ويحظى بامتيازات جمركية على حساب اللوائح والقوانين؟ هل نجح لأنه حرامي أم عصامي؟ وهل كون شخص ما قادرا على اجتياز الامتحانات الأكاديمية، محرزا نتائج عالية، يجعله مستحقا للقب «ناجح»؟ ويقال إن زيدا أو عبيدا «نجح» في الانتخابات، فهل الحصول على أكبر عدد من أصوات الناخبين هو معيار النجاح؟ ماذا لو حصل على تلك الأصوات بشراء الذمم؟ ماذا لو أنه أثبت بعد فوزه بالمنصب الذي خاض الانتخابات لأجله أنه فاشل وجاهل وانتهازي؟ خذ مثلا الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، الذي نجح مرتين في الانتخابات الرئاسية، وانقضت ولايتيه بنتائج كارثية على بلاده وبلدان أخرى.. بدد تريليونات الدولارات في حروب عبثية في أفغانستان والعراق، لم يكسب منها ولا جولة واحدة، وترك الرئاسة وبلاده غارقة في ديون أدت إلى خلخلة الاقتصاد الأمريكي من جذوره.
والشاهد هو أن معظم الناس يمرون بمحطات نجاح، وأذكر هنا الرائد مأمون عوض أبو زيد الذي قاد وفدا مكونا من قادة انقلاب مايو 1969 (الذي أوصل جعفر نميري إلى كرسي الرئاسة في السودان) لزيارة الرئيس المصري جمال عبد الناصر، ليبارك «ثورتهم»، وعاد ليقول لوسائل الإعلام إن ناصر قال لهم: إن النجاح ليس في الاستيلاء على السلطة، بل في المحافظة عليها وتنفيذ البرنامج الذي وعدتم الناس بتطبيقه.. أعني أن الإنسان قد ينجح أكاديميا عن جدارة ومن حقه أن يفرح بنجاحه، وقد ينجح في الفوز بوظيفة كان يحلم بها أو بمناقصة/ عطاء، ولكن هذه النجاحات قد تصبح قصيرة الأمد والأثر النفسي، لأن الحياة رحلة كلما طالت، كلما فاجأتك بمطبات وعثرات وكبوات، وفقط من يملكون أدوات النجاح (العزيمة والمثابرة ..إلخ) ينهضون وينفضون عن أنفسهم غبار ووعثاء التعثر والسقوط، ويواصلون المشوار أو يغيرون المسار.
س: هل كاتب هذه السطور ناجح؟ ج: نعم بلا تردد أو تحفظ!! س: ما هو الإنجاز أو الإعجاز الذي يجعلك تحسب نفسك ناجحا؟ ج: الأمر لا يتعلق بإنجاز/إعجاز أو بطيخ، بل بالقناعة مقرونة بالإحساس المسنود بمعطيات موضوعية، بأنني حققت أشياء كثيرة على المستويين الشخصي والعام، ما كنت أظن أنني – وبخلفيتي الاجتماعية والأكاديمية – سأنجح في تحقيقها.. بعبارة أخرى فإنني أعتبر نفسي ناجحا لأنني قانع بما عندي ومتصالح مع ضميري، ومجرد قدرتي على كتابة هذه الكلمات «نجاح»!! كيف؟ سؤال جيد، لأن اللغة التي أكتب بها الآن ليست لغتي الأم، فأن تكون مثلي نوبيا نشأ يتكلم لغة ليس بينها وبين العربية قواسم مشتركة، ثم تكتب بالعربية وتجد من يرحب بنشر ما تكتب، يقوم شاهدا على أنك نجحت بدرجة أو بأخرى، في اكتساب لغة جديدة جميلة، واستخدمتها للنهل من الثقافة الغالبة في محيطك الجغرافي، ثم تسجيل ونشر خواطرك بتلك اللغة.. مش ببلاش.. بل تجد من يدفع لك مقابل كل مقال.
كلفني صديق يعتزم إصدار كتاب عن شخصيات سودانية يعتبرها ناجحة، أن أكتب عن تجربتي ومسيرتي باعتباري أحد الناجحين، وقلت أمس إن مجرد كتابتي لهذه الكلمات لتنشر في صحيفة عربية ظلت تنشر مقالاتي يوميا على مدى سنوات طوال، نجاح ما بعده نجاح، لأنني أكتب هذه السطور بلغة (عربية) هي ليست لغتي الأم، لأنني نشأت ناطقا باللغة النوبية وهي أقدم من العربية واللاتينية، ولا قواسم مشتركة بينها وبين أي لغة أخرى خارج إفريقيا.
وتقودني هذه النقطة إلى نجاح آخر لي وهو أنه برغم قوة انتمائي إلى الحضارة والثقافة النوبية، فإنني قوي الانتماء إلى كل السودان وأحب كل أهل السودان، ولم ولن أمارس الاستعلاء على جنس أو عرق أو قبيلة.. وبداهة فلست أول ولا آخر من «نجح» في مضمار الانتماء إلى عموم الوطن، فهناك الملايين الذين هم أكثر استعدادا مني لخدمة الوطن والدفاع عن حقوق مواطنيه، وأريد لهؤلاء أن يحسوا ويسعدوا بكونهم «ناجحين» ويا ما في الوطن فاشلون وخونة لا يترددون في بيع ذممهم وضمائرهم بل بعض تراب الوطن لقاء مكاسب شخصية.
في المكتبات الآن كتابي الثالث وعنوانه «سيرة وطن في مسيرة زول»، لخصت فيه جوانب من مشوار حياتي في ضوء النقلات والمنعطفات التي مر بها الوطن، ولا بأس من استحضار مشاهد من ذلك المشوار، لأفسر وأبرر لماذا أعتقد أنني «ناجح»: أنتمي إلى جزيرة نهرية لا تجد لها ذكرا في الأطالس، ولأسرة نوبية بسيطة، وعانيت الأمرين خلال السنوات الأولى من مسيرتي الأكاديمية، بسبب حاجز اللغة، فقد كانت العربية لغة التدريس، وكان معظمنا أطرش في الزفة لعدم استيعابنا ما يقوله المعلمون، وفي زمن كان فيه نحو ألف تلميذ يتنافسون على نحو 80 مقعدا في المدارس المتوسطة، كنت ضمن المحظوظين الثمانين (ولكن في الجولة الثانية لأنني أخفقت في الجولة الأولى)، وفي المدرسة المتوسطة كانت تنتظرني مفاجأة مفجعة وهي فرع الرياضيات المسمى «الجبر».
ظهرت في السنوات الأخيرة لعبة الأرقام المعروفة باسم سودوكو، ولا يستطيع التوصل إلى الحل الصحيح فيها إلا ذو بأس وجلد وقدرة على التركيز، لأنك مطالب بملء تسع مربعات موجودة داخل مربع واحد كبير بالأعداد من 1 إلى 9 من دون أن يتكرر أي عدد داخل المربع الصغير الواحد أو طوليا أو أفقيا في المربع الكبير.. والسودوكو مقارنة بالجبر مجرد «تسالي»، ومنذ أول «حصة» كتب فيها مدرس الرياضيات س+ ص، وقف دماغي ضد ذلك العلم بالمرصاد، وأصبحنا أنا والجبر «الشحمة والنار»، وهذه عبارة سودانية تعني عدم التوافق، لأن الشحم والنار، عدوان لدودان، وحدثت القطيعة التامة بيني وبين كل فروع علم الرياضيات، ولكنني «لهلوبة» في السودكو في زماننا ذاك كان الحافز على التفوق الأكاديمي ذاتيا، لأن معظم أولياء الأمور وقتها لم يكونوا مهووسين كنظرائهم في عالمنا الراهن، بأن يصبح عيالهم دكاترة ومهندسين، بل كان كثير منا يسمع من أحد الوالدين أو كليهما عبارة «ما كفاية قراية»، وكنت في قرارة نفسي أعرف أنه لو شكوت لأمي أو لأبي عن معاناتي مع الجبر، لجبروا خاطري بإخراجي من المدرسة نهائيا، فما من أم أو أب يرضى لبنته أو ابنه «الذل» وأحسب أن ما حملني على عدم الشكوى هو ليس حبي لـ «التعلم»، بصفة عامة بل شغفي الشديد بـ «القراءة»، فقد كنت قارئا نهما، وقرأت جميع الكتب التي كانت في مكتبة مدرسة بدين الأولية (الابتدائية)، وعند انتقالي إلى مدرسة البرقيق الوسطى كنت قبل إكمال تلك المرحلة بعام كامل، قد قرأت كل الروايات الإنجليزية في مكتبتها، وهكذا بدأت قصة حبي للغة الإنجليزية، فجعلت منها سلاحا أكاديميا يعوضني فارق الدرجات التي تضيع علي في مادة الرياضيات، بل في زمن لم يكن فيه الطلاب يقسّمون في المرحلة الثانوية إلى «علمي» و«أدبي» كنت قد حسمت أمر مسيرتي الأكاديمية بأنني بالتأكيد لن ألتحق في المرحلة الجامعية بكلية تدرّس فيها أي مادة فيها «س» و«ص»، أو حتى أرقام صريحة، وهكذا قررت في مرحلة مبكرة من العمر أن الإنجليزية هي سلاحي الأكاديمي، وبالتالي ستكون سلاحي المهني بعد دخولي الحياة العملية.
jafabbas19@gmail.com