جعفر عباس

هل أنا ناجح؟ لكم القرار (5)


لكم القرار وحق الحكم على ما إذا كنت ناجحا أم لا في ضوء المعطيات التي أوردتها على مدى الأيام الأربعة الماضية، وكيف أن قرويا لم ير الكهرباء والماء الذي يأتي عبر حنفية وصنبور إلا بعد وصوله إلى المرحلة الثانوية، نجح في دخول الجامعة الوحيدة في بلاده وتخرج فيها عن جدارة، ثم عمل مدرسا وضابط إعلام ومترجما في السفارة البريطانية في الخرطوم ولكن البريطانيين الأوغاد طردوني إرضاء لحكومة الديكتاتور الراحل جعفر نميري الذي كنت من معارضيه فاستضافني في السجن ثمانية أشهر، وخرجت من السجن وأنا أكثر عداء لحكمه.
وبعد أن طردني الإنجليز من سفارتهم، عدت مدرسا في المرحلة الثانوية، فإذا بوزارة التربية ترشحني لدراسة الإنتاج التلفزيوني في لندن «حتة واحدة».. وببلاش، يا ما أنت كريم يا رب، وتلك الدراسة هي التي جعلتني أخطو أول خطوة منهجية في اتجاه مجال الإعلام، وعدت وعملت بالتلفزيون السوداني حينا من الدهر، ثم «نجحت» في امتحان للفوز بوظيفة «أخصائي ترجمة» في أكبر شركة منتجة للنفط في العالم – «أرامكو» في الظهران في المنطقة الشرقية في السعودية… ومن ديك وعيك، كما نقول في السودان عن الانطلاقة أو الانقطاع: صرت أترجم مقالات من المجلات الأمريكية والبريطانية لصحيفة اليوم السعودية.. ثم عملت في مجلة الدوحة الثقافية وجريدة الراية القطرية وامريتس نيوز Emirates News الإنجليزية والاتحاد الإماراتية، ثم جريدة الشرق القطرية، ثم شركة الاتصالات القطرية، ثم تلفزيون بي بي سي، ثم شبكة الجزيرة الفضائية، التي أعمل فيها حتى لحظة كتابة هذه الأسطر، ومنذ نحو 17 سنة وأنا أكتب أعمدة يومية وأسبوعية في مطبوعات في أربع دول وصدر لي حتى الآن ثلاثة كتب. ومنذ نحو تسع سنوات وأنا باشكاتب في جريدة أخبار الخليج هذه.
ومن أهم إنجازاتي أنني مازلت متزوجا.. هو إنجاز أن تظل متزوجا لـ33 سنة ومن نفس «الزولة»، ولي من العيال بنتان وولدان، وقد هاجرت من السودان قبل أكثر30 سنة ولو سألتني عن أنجح استثماراتي (بافتراض أن من يغترب في دول الخليج الغنية ثلاثين سنة لا بد أن يكون غنيا) فإنني أقول إنهم عيالي، فقد عاهدت نفسي على أن أقف إلى جانب كل واحد منهم حتى ينال الماجستير، وعندي بفضل الله اليوم في بيتي 3 ماجستيرات ودكتوراهتين (مثنى دكتوراه)، وآخر العنقود نال درجته الجامعية قبل سنة وشهرين، وحان لأبي الجعافر، إذا مد الله في أيامه، كما حان لأبي حنيفة أن يمد رجليه، ويتقاعد، وأن يتعلم لعب الدومينو وطاولة الزهر.
دعوني ألخص تجربتي طالما افترض صاحب الكتاب هذا أنني ناجح، وطالما أنا راض بما حققته خلال مسيرتي الدراسية والمهنية، واعتبر ذلك نجاحا: قروي من عائلة بسيطة شق طريقه حتى الجامعة من دون تحفيز أو دفع خارجي، ودرس في كلية الآداب التي لا تؤهل طلابها لمهن محددة، بل تزودهم بمعارف عامة ليدخلوا معترك الحياة ويقتحموا مجالات عمل لا علاقة لها في غالب الأحوال بما درسوه في الجامعة، ومعلوم في كل دول العالم أن قادة الرأي والعمل العام في الغالب الأعم هم حاملو الدرجات في العلوم الإنسانية (الأدبية)، وخريجو كليات الاقتصاد والإدارة والتجارة والقانون عندهم – على الأقل من الناحية النظرية – مجالات عمل محددة يتنافسون عليها، أما خريج كلية الآداب فعليه أن يدرك أن سلاحه الأساسي لخوض غمار الحياة هو ثقافته العامة والذهن المفتوح، ولا أنكر أن جيلنا كان محظوظا في ما يتعلق بفرص العمل، ولا أظن أن أحدا من أبناء/ بنات دفعتي «طار» من دون وظيفة لأكثر من ستة أشهر بعد التخرج، ولكن من حقق منهم رصيدا طيبا من النجاح كان من أولي العزيمة والطموح.

jafabbas19@gmail.com