جعفر عباس

هل أنا ناجح؟ لكم القرار (6)


شرعت في هذا الموال بدعوة من صديق يعتزم إصدار كتاب عن «قصص نجاح» شخصيات سودانية وطلب مني أن أكتب عن قصة نجاحي، وقلت خلال الأيام الماضية إنني أعتبر نفسي ناجحا لأنني حققت ما هو أبعد من طموحاتي، بالمثابرة والكد، وفي الحياة العملية بالذات فإن خريجي كلية الآداب كما هو حالي يدخلون سوق العمل بالعافية وهم غير مؤهلين لوظائف معينة كما هو حال خريجي الكليات التطبيقية.
وعلى كل حال فإن جميع الكليات الجامعية لا تعطي الدارس سوى أدوات بسيطة يدخل بها سوق العمل: مفك وكماشة وزردية وشاكوش (الشاكوش في قاموس العامية السوداني المعاصر لا علاقة له بالنجارة بل يعني «هجر الحبيب»، وإذا سمعت أن فلانة أعطت علان شاكوش فلا تحسب أنها دشدشت دماغه وكسرت جمجمته بل كل ما هناك أنها قالت له: فِز، وحِل عن سماي)، فسواء كنت تحمل درجة في الهندسة او الطب البشري او البيطري او التجارة فإن عليك ان تتعلم أصول المهنة «من أول وجديد»، بعد ان تدخل سوق العمل.
ومن ينجحون هم العصاميون، والعصامي ليس بالضرورة من نجح من دون ان ينال حظا من التعليم او جمع ثروة من دون أن يرثها عن أسلافه، بل هو أيضا من يطور نفسه مهنيا بعد مغادرة كراسي الدراسة، من منطلق أن التعلُّم (بتشديد اللام الثانية مع الضم) عملية مستمرة، فالمدرس يتعلم من زملائه وطلابه، والموظف يتعلم من رؤسائه ومرؤوسيه، والكتب خير معلم في جميع مجالات العمل، ومن لا يقرأ يفرمل عند نقطة معينة ويتكلس ثم يتحنط.. ألم تلاحظ أن أطباء معدودين يتفوقون على العشرات بل المئات من بنات وأبناء دفعتهم عن جدارة؟ ليس السر في ذلك الشطارة، بمعنى القدرة على الاستيعاب والفهم، بل في أنهم يواكبون المستجدات في العلوم الطبية ويشاركون في المؤتمرات ويشترون المجلات الدورية المحكمة.
محمد أحمد محجوب رئيس الوزراء السوداني الأسبق وأحد أبرز الشخصيات التي هزت منابر الأمم المتحدة كوزير للخارجية، وكان من خاطب الجمعية العمومية للأمم المتحدة عقب هزيمة 1967 على يد اسرائيل، كان في الأصل مهندسا، ووضع شهادة الهندسة في الدرج ودرس القانون، وبالمناسبة فإنه لم يكن يحمل بكالوريوس لا في الهندسة ولا في القانون لأن، «كلية غردون» التي درس فيها هو والآباء المؤسسون للسودان المستقل، كانت شيئا وسطا بين المدرسة المتوسطة والثانوية، وكان المحجوب شاعرا موهوبا قوي العبارة جزلها، ولكن اللقب الذي اشتهر به هو «الرجل الإنجليزي الأسود The black English man»، لأنه كان يتحدث الإنجليزية أفضل من الذين ولدوا ناطقين بها.. ولا أظن ان عدد حملة البكالوريوس في السودان عند استقلاله كان يزيد على عشرة أشخاص، ومع هذا أداروا دفة البلاد بكفاءة ونزاهة، مسلحين بالخبرات التي تشربوا بها وهم موظفون صغار في ظل الإدارة البريطانية.
والشاهد هو ان الشهادة الأكاديمية لا تصنع الإنسان الناجح، لأن النجاح مجاهدة ومكابدة و«مجابدة»، وكم من أمِّي أو نصف أمِّي نجح في مجال صناعة الأحذية أو بيع البرسيم والسمك. نجح بجدارة لأنه اختار مهنة صعبة لا توفر الوجاهة الاجتماعية، ولكن توفر للعائلة القوت الضروري وتجعل أفرادها يعيشون موفوري الكرامة مرفوعي الرؤوس، وأمثال هؤلاء هم القدوة، لأن المجتمع يذخر بمشاهير نجحوا في دنيا الوظيفة او المال بالاحتيال والاستهبال والممارسات غير الحلال، ولهذا قلت في فاتحة هذه السلسلة من المقالات ان «النجاح» كلمة مطاطية، لأنها تطلق بمجانية حتى على من ينال الثروة والمكانة والوجاهة بإراقة ماء الوجه أو أساليب غير شريفة. ونعرف جميعا أن أكثر الناس ميلا للاستعراض وطلبا للأضواء هم الذين «أكلوها والعة» كما يقول المصريون لمن «قام من نومه ولقى كومه» أي نال مغنما من دون جهد يذكر، في حين أن من يستحق وصف «ناجح» هو الكادح الفالح الذي يشق طريقه في الحياة بعرق جبينه او عصارة فكره، حتى لو ولد وفي فمه ملعقة من ذهب.

jafabbas19@gmail.com