منى عبد الفتاح : ليس سوى قلم!
كانت الأقلام قليلة ومع ذلك شهد زمان سابق لزمان الفوضى هذا إنتاجاً غزيراً لأصحاب الأقلام من عمالقة الفكر والأدب والصحافة والشعر والنثر.
الآن ونحن نشهد طوفاناً للأقلام حقيقية وافتراضية، تقزّم الإنتاج المعرفي في شتى ضروبه وزوى وغُلّت سنانه وحلّ محلّه إنتاج للأقلام الهذرة واللاغية والمحرّفة والفاضحة. وفوق هذا أعلن أصحابها عدم مسؤوليتهم عما تسطره أقلامهم الجامحة، لتظهر الحاجة الملحة إلى تطويع القلم والتي هي من أصعب الفنون في زمان للفوضى المنظمة. والتطويع لا يكون بإبقاء القلم صامتاً أو منعزلاً بل بشغله بما يهمّ الإنسان في هذا الوجود وأسئلته الكونية من أجل الحق والخير والجمال.
إنّ الإصغاء إلى صوت القلم يتطلب حيازة حواس مدربة على تقصي أثر سنتّه الحادة، فلكلِّ قلم صوت، ولكل ورقة أذن موسيقية تتطابق صورة رسم الحروف عليها مع عملية التدوين. أهو مجرد قلم أم كاتب أحزان، أهو شاعر بما يفعل أم يؤدي دوراً فرضه عليه الكاتب، الشاعر، الأديب، الصحفي، الطالب وموقّع فواتير السداد. أينوح الآن على ما تبقى من مداد أم يستكين على حقيقة أنه هو من بدأ عصر التدوين منذ أن بدأ إعمال الفكر لتُستعاد الحياة وتستمر وتتوهج بأسرارها.
كلما يمر عليّ مشهد قلم أراه مفجوعاً في المكان والزمان، ابن الحبر والجرافيت وما أدراك ما الحبر هو حامل همّ القضية الدائمة للمظلومين. أما الجرافيت فهو الحقيقة ذات البريق الخفي الهشة والمدمرة في آن. القلم آنس الظروف الصعبة، يسهر مع صاحبه، يتكئ على خده يبحث عن شيء ما، ويصيبه الدوار من أجل اصطياد فكرة ما يجاهد في أن يظفر بها في لحظة اقتناص.
كما أنه آنس الفواجع، ففي لحظات يكون قرين الألم يستنشق من ذاكرة صاحبه مخزوناً لا ينضب، يتسع باتساع العقل ولا يصدأ بنضوبه.
منذ أن أقسم الله تعالى به:”ن، والقلم وما يسطرون” ومنذ أن صار ما يخطه القلم مسؤولية وهناك إيقاع يحثه على أن يصدح بشيء ما من نمط مزمار داؤود. ومما ينبغي أن يناسب الثيمة الرئيسة المُستعارة من السومريين، سكان بلاد ما بين النهرين في الزمان القديم والذين يعود لهم الفضل في اختراع قلم الكتابة في الألف الرابع قبل الميلاد.
بذلك الشكل الذي هو عبارة عن عود خشبي يُكتب به على ألواح من الطين اللزج ثم يجرى تجفيف هذه الكتابة الطينية بوضع الألواح تحت الشمس. وإلى العهد الحديث في القرن التاسع عشر عندما صنع سكان مدينة بيرمنجهام الريشة المعدنية المتطورة عن الريشة التقليدية. ثم إلى ذلك العود الخشبي الذي احتوى بداخله على مادة الجرافيت التي تشبه الرصاص وسمي باسمه، ثم قلم الحبر السائل وقلم الحبر الجاف. وعلى الرغم من كل ذلك التطور إلا أنّ قلم الرصاص يظل الأقرب عاطفياً إلى أغلب الناس خاصة المبدعين.
ومنذ أن بدأ يتلاشى عهد الكتابة بالقلم بدأ الناس يفقدون الارتباط المعنوي به ولو أنه ظل خالداً في مفاصل الحياة الكتابية التي كانت تتكون من الورق والأقلام وتحولت إلى شاشة تسهل عليها عملية الكتابة والمحو. والحال هكذا فقد فقد الناس تبعاً لذلك الارتباط الأخلاقي بما يكتبون إلا من كتب وهو على لوحة مفاتيحه الإلكترونية مستحضراً ثيمة السومريين بأنه يكتب بقلم خشبي على لوح من طين لزج يصعب محوه.
جس الطبيب خافقي وقال لي:هل هنا الألم؟
قلت له: نعم
فشق بالمشرط جيب معطفي
وأخرج القلم؟
هزّ الطبيب رأسه ومال وابتسم
وقال لي: ليس سوى قلم
فقلت: لا يا سيدي
هذا يدٌ وفم
رصاصةٌ ودم
وتهمةٌ سافرةٌ.. تمشي بلا قدم!
(من لافتات أحمد مطر)