دماء وحريق وحرب شائعات في جبال النوبة
السودانيون شغلتهم حرب اليمن عن أحداث جنوب كردفان
على متن الطائرة الفوكرز التي أقلت وفد وزير المعادن د. “أحمد الصادق الكاروري” ونحن في منتصف المسافة بين الفاشر والخرطوم طلبت من الأستاذ “صديق مساعد” مسؤول الإعلام في وزارة المعادن الترتيب لحوار وحديث مع وزير المعادن الذي لم التقه من قبل رغم أن الهلال يجمعنا وحب الطنبور يوحدنا.. والوطن يظللنا.. سألني الوزير “الكاروري” لماذا تبدو مهتماً بالأحداث في جنوب كردفان وتطغي أحياناً على نشاطك الصحافي؟؟
هذا السؤال يردده الكثيرون، والإجابة بسيطة، أن صحيفة (المجهر) هي التي تهتم ببؤر النزاعات في الوطن، وفتح الأخ الصديق الأستاذ “الهندي” صفحات (المجهر) لقضايا جنوب كردفان ودارفور ليكتب في هذه الصحيفة نخبة من أبناء تلك المناطق وتهتم بتغطية الأحداث الداخلية باعتبارها مقدمة على ما عداها من أحداث جنوب كردفان أو جبال النوبة، وظلت هي من يصنع الحدث والقوى الرئيسية التي تحمل السلاح ضمن فصائل المعارضة المسلحة هم أبناء النوبة والحركة الشعبية.. وأشرس المعارك تدور الآن في تلك الأراضي الوعرة والجبال الشاهقة والجغرافيا شديدة التعقيد، وإذا أفلحت الحكومة في التوصل لتسوية نهائية وعادلة ودائمة في تلك المنطقة ستفتح تلك التسوية الباب واسعاً لتسويات أخرى.. وإذا تمكنت القوات المسلحة من القضاء على التمرد في جبال النوبة قضاءً تاماً، وبسطت سيطرتها على كل الجبال فإنها بذلك ستنهي خطر التمرد، لكن تبقى القضية السياسية تنتظر الحل النهائي.. والآن في الوقت الذي شغلت فيه حرب اليمن الرأي العام في الداخل والخارج واختار السودان بطوعه أن يكون في المحور العربي السني لمواجهة المدّ الشيعي الإيراني في المنطقة وانشغلت وسائل الإعلام بتلك الحرب.. فإن داخل السودان وعلى بعد (750) كيلومتراً من الخرطوم تدور حرب شرسة.. ويتمدد الموت في كل قرية، وكل مدينة وفريق وجبل.. ويفرش الحزن بساطه على أرض جنوب كردفان.. ولا تلوح في الأفق بوادر انقشاع للأزمة قريب!!
{ الحلو ورسالة الانتخابات
منذ تمرده في النصف الأول من ثمانينيات القرن الماضي لم يعهد في “عبد العزيز آدم الحلو” اهتمام بالإعلام ولا الصحافة.. وهو شخصية غامضة جداً لا يتحدث في اللقاءات الجماهيرية والتعبوية إلا في دوائر ضيقة جداً ويدعي أحياناً ضعف السمع حينما يتحدث إليه شخص بمضمون لا يريد سماعه.. وكل قادة الحركة الشعبية والجبهة الثورية يتقافزون من عاصمة لأخرى يطوفون العالم شرقه وغربه، إلا “الحلو”، ظل في جبال النوبة يختبئ في الجبال والكهوف ما بين (كاودة) و(تبانيا) و(أم سردية) و(كوراك).. لكن قبل فترة قصيرة بثت مجموعة (عاين) الإعلامية التي يشرف عليها “الحاج وراق” و”عبد الرحمن أردول” الذي ينشط في الإعلام الإلكتروني، بثت (عاين) رسالة لـ”عبد العزيز الحلو” عبر (واتساب) و(فيسبوك)، ووجدت الرسالة رواجاً وانتشاراً لم تجده أية رسالة من قبل.. والآن في أجهزة السودانيين تلك الرسالة التي قدم فيها “عبد العزيز الحلو” خطبة سياسية أعلن من خلالها الحرب على الانتخابات المرتقبة وهو يشير إلى عدد قليل جداً من الجنود بالتقدم نحو إيقاف الانتخابات في جنوب كردفان فقط.. وهنا.. كأن “الحلو” قد اختار برسالته رقعته الجغرافية التي يدير فيها معركته كحركة شعبية وليس جبهة ثورية، ويسمي القائد المتمرد “كوكو إدريس” كقائد لعمليات تخريب الانتخابات.. لغة “الحلو” لم تخلُ من تسفيه واحتقار لحلفاء الحركة الشعبية وهو يقول لجنوده هناك: (ناس بسموهم قوى الإجماع الوطني).. و(إنتو عارفين في حاجة اسمها “نداء السودان”)، مثل هذه اللغة لا تنم عن احترام من “الحلو” لحلفائه في المعارضة السياسية والعسكرية.. ولكن الحركة الشعبية وهي تخطط لإجهاض الانتخابات فإنها تمنحها شهادة وأهمية وإلا لما حشدت لها القدرات العسكرية وخططت لتنفيذ هجمات على بعض المناطق!! وبدأت هجمات الحركة الشعبية على المناطق التي لا وجود فيها للقوات المسلحة ولا الشرطة، وحددت ميدان معركتها.. أولاً من (كالوقي).. وبوابة (أبو جبيهة) الغربية المعروفة بـ(الرحمانية) و(توسي).. والأسبوع الماضي كان الهجوم على (هبيلا) و(الفرشاية) الواقعة شمال (الدلنج).
{ حرب الشائعات والجواسيس ومناخ الانتخابات
سيطرت الحركة الشعبية على الرأي العام في جنوب كردفان من خلال حرب الشائعات وزعزعة قناعات الناس في الانتخابات والترويج يومياً لهجمات تقوم بها الحركة الشعبية على بعض المناطق.. وتنامت ظاهرة الطابور الخامس والمخذلين وسط الناس.. ونجحت الحركة الشعبية في تجنيد عناصر ناشطة جداً في أحزاب شرعية من أجل تنفيذ مخططها.. هؤلاء يبثون الشائعات والأخبار الكاذبة ويروجون لقوة الحركة الشعبية وينقلون أخبار القوات المسلحة.. وقد تم رصد عناصر تعمل في أحزاب الحركة الشعبية جناح السلام وحزب العدالة وحزب الأمة، وحتى بعض أدعياء الانتماء للمؤتمر الوطني وهم يبتهجون ليلة الهجوم على (هبيلا) ويمزقون شعارات المؤتمر الوطني في (الفرشاية).
{ قصة الهجوم على (هبيلا)
ثلاثة أيام أمضتها (المجهر) في جبال النوبة أو جنوب كردفان وهي تستمع لإفادات الناس وتلتقي بقيادات المجتمع وتقدم التعازي لأسر الشهداء والجرحى والمصابين.. وصندوق دعم السلام في جنوب كردفان يتحمل أعباء تقديم التعازي نيابة عن مؤسسة الرئاسة.. والوقوف ميدانياً على الأحداث.. وقد كتب صندوق البروفيسور “خميس سلمان الصافي” لنفسه شهادة صلاحية.
بدأت أحداث الهجوم على (هبيلا) يوم (الجمعة) الماضي، ونفذ الهجوم صباح (السبت) الماضي، عشية (الجمعة).. خرجت مجموعات من سكان (هبيلا) تجار.. وبعض المواطنين.. ومزارعون بأسرهم بعيداً عن المنطقة في صمت شديد.. ولكن الأخبار أخذت تترى عن رصد المواطنين لوجود قوة من التمرد في مناطق شرق (هبيلا).. وقد أفاد شهود عيان ومنهم ضابط كبير في اللواء (54) الدلنج- فضل حجب اسمه- أن التمرد جمع قواته في منطقة (مرديس) بجبال (الكواليب) على بعد (40) كلم من (هبيلا) منذ (الأربعاء) الماضي ولم يتعرف وجهتها، ويبلغ حجم القوة التي هاجمت (هبيلا) حوالي (32) عربة لاندكروزر مسلحة بالدوشكا والقرنوف.. ولا يتعدى عدد المتمردين في كل عربة (12) متمرداً.. وتسللت القوة في جنح الظلام من جبال (الكواليب) وشرق (دلامى) إلى كل من (أم حيطان) و(هبيلا) وعند (المشروع ستين) الذي يملكه رجل الأعمال “أحمد عبد القادر” الشهير بـ(حبيبي) توقفت عند المشروع وسألت شقيقه “عبد الرحمن عبد القادر” عن الطريق المؤدي إلى (هبيلا) وكان ذلك حوالي الساعة السادسة صباحاً.. وفي السابعة والنصف بدأ الهجوم على حامية (هبيلا) من جهة الشمال الشرقي حيث تمركزت سيارات الحركة الشعبية بالقرب من خزان المياه، وبدأت في إطلاق النار الكثيفة على الحامية، بينما اتجهت قوة تتكون من (10) سيارات نحو مقاصدها لنهب السوق.. وهذه المجموعة التي اتجهت لنهب السوق يقودها المدعو “عبد الإله التجاني” وهو قاتل زوجته وأمها قبل سنوات وهارب من العدالة.. ووالده كان من أثرياء (هبيلا).. عاش “عبد الإله” مترفاً وسط أسرة مشهورة بالكرم والتقوى وحسن الخلق.. وكان مرشداً للمتمردين بمتاجر بعض الموطنين وهو يخطب بصوت عالٍ، ويسيء لبعض الناس منتقماً من قيادات المؤتمر الوطني التي كانت مستهدفة من قبل التمرد.. وبلغ عدد المتاجر التي نهبت بالكامل (79) دكاناً أصبح أصحابها يقلبون أكفهم حسرة على المال الذي تسرب من بين أيديهم.. وقد أصبحوا فقراء.. وتم تحميل شحنات البلح والزيوت.. والجازولين والبنزين والملابس. ويقول “عثمان عبد الله” صاحب محل أجهزة هاتف إنه فقد بضاعة بقيمة (142) ألف جنيه ومبلغ (40) ألفاً نقداً.. وتعرضت متاجر “إبراهيم عبد الصادق” أحد قيادات حزب الأمة وصهر الدكتور “حامد البشير إبراهيم” القيادي في حزب الأمة والموظف الأممي للنهب بالكامل من قبل التمرد.. وأشعل المتمردون الحرائق في بعض المتاجر والبيوت، وبلغ عدد (القطاطي) التي أشعل فيها المتمردون النار بالحي الغربي والجنوبي وتية وفريق العرب حوالي (420) قطية الآن أصحابها ينتظرون أن تجود عليهم مفوضية العون الإنساني وقوافل الدعم الحكومي ببعض الذي يساهم في درء آثار النهب والسلب.
{ معركة رجال اللواء (54)
تصدت القوات المسلحة ببسالة وشجاعة لهجمات المتمردين منذ الصباح الباكر، وإذا كان أهل السودان يباهون ويفاخرون ببطولات القوات المسلحة والمجاهدين من قوات الدفاع الشعبي في معارك الجنوب الشهيرة.. مثل الميل (40) ومعركة توريت.. والهجوم على جوبا.. ومعركة خور إنجليز.. فإن أبطال اللواء (54) الدلنج قد كتبوا تاريخاً جديداً في سفر البطولات والتضحيات، حيث قاتل أبناء القوات المسلحة ببسالة وفدائية وواجهوا كثرة قوات العدو بالصبر والثبات ساعة الوغى.. لم يولوا الأدبار هاربين، ولم يتزحزحوا من خنادقهم.. معركة امتدت من الساعة السابعة صباحاً حتى الثانية ظهراً.. سبع ساعات من القتال بلا ماء.. ولا غذاء لأن الرصاص كان ينهمر على رؤوس الأبطال كزخات مطر الخريف في (هبيلا).. سقط في تلك المعركة (53) شهيداً وسقط ف السوق والحي الغربي، وما بين المؤسسة الزراعية الآلية ومباني المحلية (16) شهيداً آخرين ليبلغ عدد الشهداء في (هبيلا) بيوم واحد (69) شهيداً.. قاتل أبطال اللواء (54) حتى نفدت ذخائرهم، فلم يهربوا.. تمسكوا بالخنادق لتصبح مقابر للشرفاء الأبطال في واحدة من ملاحم البطولات التي كان حرياً بالإعلام السوداني توثيقها للأجيال القادمة.. وقتلت في معركة (السبت) أعداد كبيرة جداً من المتمردين، وحمل الباقون قتلاهم وجرحاهم.. وحينما خرجوا من (هبيلا) متوجهين إلى مناطق جبال (الكواليب) لم يحتفلوا كعادتهم حينما يهاجمون المناطق بسبب الجثث التي يحملونها على سيارات اللاندكروزر.. وهنا تتقافز بعض الأسئلة.. هل كان يمكن إنقاذ (هبيلا) قبل أن تسقط في أيدي التمرد لساعات وهي تبعد على الدلنج نحو (40) كلم شرقاً؟؟ لكن بيان الحكومي الرسمي يقول إنها تقع غرب الدلنج ولا يملك أحد (مغالطة) الحكومة أو تصحيح معلوماتها!!
{ توقيت الهجوم
اختارت الحركة الشعبية يوم (السبت) وهو يوم السوق الأسبوعي لـ(هبيلا)، حيث تأتي السيارات محملة بالبضائع من (الأبيض، الرهد، أم روابة، الدلنج والدبيبات)، وذلك حتى يستأثروا بأكبر عدد من الغنائم والبضائع.. وكان الهجوم في اليوم الذي كان منتظراً أن يزور فيه الوالي “آدم الفكي” المنطقة ويخاطب حشداً للمؤتمر الوطني في (هبيلا).. وكان طلاب وطالبات محليات (هبيلا، كرتالا ودلامى) قد تأهبوا لوضع الأقلام بعد إكمال امتحانات الشهادة السودانية.. لكن هيهات.. لقد ضاعت الورقة الأخيرة من هؤلاء الطلاب.. ولم يذهبوا لقاعات الامتحانات بقدر ما ذهبوا إلى الغابات والخيران هاربين من جحيم الرصاص والموت، حيث أدت الأحداث في يوم (السبت) إلى نزوح أكثر من (40) ألفاً من سكان (هبيلا) إلى المناطق المجاورة.. وقد مات بعض الأطفال عطشاً في الأودية والخيران، بينما سار الأهالي لساعات على الأقدام، ووضعت بعض النساء حملهن في الدلنج جراء الرحلة الطويلة والهلع والخوف الذي سكن النفوس جراء هجوم التمرد على (هبيلا).
{ (الفرشاية).. وعاصفة الحزم
في مساء (الأحد) الماضي، اليوم الذي تلا الهجوم على (هبيلا)، نفذت الحركة الشعبية هجوماً مباغتاً في منتصف الليل على موقع لقوات الاحتياطي المركزي في (الفرشاية) من أجل الحصول على السلاح والذخائر.. وقد استولت الحركة على عربة لاندكروزر وأسلحة خفيفة وثقيلة، واستشهد في هذا الهجوم اثنان من أبطال الشرطة الذين دافعوا ببسالة وشجاعة حتى غلبتهم كثرة المهاجمين.. وتقع (الفرشاية) شمال (الدلنج)، وهناك جدل حول تبعيتها لمحلية (القوز) أو (الدلنج) لكنها على الطريق إلى (الأبيض).. وفي مساء (الاثنين) خططت الحركة الشعبية للهجوم على مدينة (الدبيبات) واستهداف محطة الكهرباء الرئيسية التي تغذي (الدلنج) وبقية مدن جنوب كردفان.. وكان لوجود الوالي في (الدلنج) أثر في إفشال مخطط التمرد بالهجوم على (الدبيبات) بالتوجيهات التي أصدرها بتعزيز القوات الموجودة فيها بقوات إضافية جعلت التمرد يعيد حساباته ويؤجل الهجوم في الوقت الراهن.. وإزاء هذه الأحداث العاصفة وتحدي التمرد لإرادة الأغلبية وانتشاره في مناطق عديدة من الولاية كان الرأي العام في السودان منشغلاً بمتابعة أخبار (عاصفة الحزم) في اليمن أكثر من انشغاله بقضايا الوطن الداخلية وحرب التمرد التي تستهدف تعطيل الانتخابات ووقفها.. والحيلولة دون قيامها.
{ الإعلام الغائب
ذات الدور الذي كانت تلعبه إذاعة الحركة الشعبية (s.p.l) في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي من بث الشائعات ومحاولة إضعاف الروح المعنوية للمواطنين، تلعبه الآن إذاعتا (دبنقا) من هولندا.. و(صوت المهمشين).. وتجد هذه الإذاعات متابعة من المواطنين بسبب الفراغ الكبير الذي يحدثه غياب أجهزة الإعلام الوطنية التي إما مشغولة بالتنقيب عن تراث الحقيبة وجماليات الطنبور، أو بث دعاية المرشحين لمنصب رئيس الجمهورية، وهي دعاية تثير السخرية والضحك أكثر من الجدية.. ولا يقبل الناس على مشاهدة تلفزيون السودان في المساء ويفضلون عنه الجزيرة.. والعربية وتلفزيون جنوب السودان وتشاد.. وإذاعات الـ(FM) ضعيفة وبلا محتوى.. ولا برامج.. أما الصحافة فإنها تصل مساءً إلى (الدلنج) و(هبيلا) و(كادوقلي).. ويقول “حسنين” أحد أكبر موزعي الصحف إن القراء في جنوب كردفان يتابعون صحف (المجهر) و(الانتباهة) و(ألوان)، وبعضهم يقرأ (التيار).. ولا أثر كبير للصحافة على الأحداث هنا، لأن أغلب الصحف تشغلها اهتمامات سكان المدن عن مشاغل الريف.
المجهر السياسي