مكي المغربي

نحن من جيل أبريل..!

أنا من جيل شهد الانتفاضة والفترتين؛ الانتقالية والحزبية، والصخب والضوضاء والصحف التي يبلغ توزيعها مئة ألف “عادي جدا!” والحرية إلى أقصى حد، ومساءلات البرلمان وقفشات الراحل د. عمر نور الدائم واتهامات سيد أحمد الحسين ونقده اللاذع القارص للإسلاميين، والشيخ الدكتور حسن الترابي بابتسامته وعبقريته، والصادق المهدي، رئيس الوزراء المنتخب صاحب الراتب الرمزي “جنيه واحد”، وعلي عثمان زعيم المعارضة الشاب المتألق.
كنا في الثانوي العالي في مدرسة الخرطوم القديمة، والمظاهرات برنامج ثابت، وجامعة الخرطوم على مرمى حجر وعمار محمد آدم ملك المظاهرات غير المتوج الذي لا يحتاج لمايكرفون في الهتاف الداوي، وفي ذلك سيناريو محاولة اغتيال سيد أحمد خليفة رئيس تحرير الوطن الذي حكاه عمار للصحيفة نفسها، ونرجو منه الإعادة. أما قصة احتلال مكتب الصادق، فهي قصة أخرى ممتعة.
صحيفتا (ألوان) و(حلمنتيش)، والتعليقات الساخرة على سقوط الكرمك وقيسان، ومعركة الجِكَو، وعبارة “ماذا بعد الجكو إلا كسر العكو”؟!
لقد كانت فترة حيوية، لم يكن فيها أي إنجاز سياسي، كان الوزراء الحزبيون مثل النبلاء في القرون الوسطى، وكان زعماء الطوائف والأحزاب مثل ملوك البوربون.
بعض الوزراء لا يبدأون يومهم إلا بالإفطار الكبير في بيوتهم، الصواني “تتطاقش” حتى الساعة الثانية عشرة، ثم يلفون عمائمهم ويذهبون للمكاتب من الواحدة ظهراً إلى الرابعة فقط وكله سياسة في سياسة، وبعدها البِكْيات والفواتح والمناسبات حتى آخر الليل، وبعضهم “يواصل”، نعم صحيح كانت هنالك استثناءات مشرقة مثل أبو حريرة، وعموماً شباب الجبهة الإسلامية كانوا راغبين في إثبات وجودهم.
الشريف زين العابدين الهندي وصراحته وصدقه وشعره وأدبه وكرمه، والجدل حول الشريعة الإسلامية، “قوانين سبتمبر التي لا تسوي الحبر الذي كتبت به” كما قيل حينها، وكلام عمر عبد العاطي، “ما في ود مقنعة بقدر يلغي الشريعة”.
ندوات الشيوعيين، وحفلات وردي الصاخبة، وهتاف “راس نميري مطلب شعبي”، حزب البعث العربي الاشتراكي، وملصقاته الأجود والأكثر في الشوارع، وحضوره السياسي الفاعل الذي لم يثمر ولا عن دائرة انتخابية الواحدة.
جدل البرلمان الذي لا ينتهي، ومحاسباته للحكومة وعبارة عمر نور الدائم “يعني شنو سقطت الكرمك؟!!، برلين سقطت!!”
لقد كانت فترة حيوية تعلمنا فيها السياسة ونحن صبية، ونفعنا الله بأننا من أسر سياسية ولديها امتدادات في كل الأحزاب بل وفي كل البيوتات السياسية، فقد أكلنا في بيوتهم قبل أن نراهم في التلفاز، وحملنا الأباريق لغسيل الأيادي ووزعنا الشاي والقهوة، وسمعنا الشجار الصاخب والملاسنات التي يتدفق خلالها التاريخ السوداني الحقيقي، عندما يكشف كل سياسي عورات الحزب المناوئ له على الملأ.
كانت فترة حيوية تعلمنا فيها قيمة الصحيفة وقيمة الخبر، والأسرار، والصور المنتهكة للخصوصية، والكاريكاتيرات المسيئة، والتسريبات وقصة الكاسيت المشهور.
لقد صادفت الديمقراطية بشاشة قلوبنا ونحن يافعين، من المستحيل أبدا أن نراهن على الشمولية أو حكم الفرد، ولكن أيضا لأننا شبعنا من الثورة والفوضى ونحن صغار فلن تراودنا مراهقة سياسية متأخرة في البحث عن انتفاضة إسفيرية مجهولة العواقب.
أتذكر جيداً اتهام بعض الساسة لصحيفة (ألوان) تحديداً بأنها أسقطت الديمقراطية، وحديث الصادق “هزمني السوق الأسود”؟!
تعلمنا السياسة ونحن صغار، واستفدنا، ولسنا مثل الذين فتحوا عيونهم على خلايا التنظيم والأمن الطلابي بالتأكيد، ولذلك نحن من الجيل الرمادي، لسنا جزءاً من التاريخ الوطني الحزبي القديم، ولسنا من الحاضر المنقسم والمنشق حتى مشاش عظمه ما بين لاجئين سياسيين يعارضون من الفنادق، ومجاهدين دبابين، وبين هذا وذاك صفوف لا يجمع بينها شيء سوى الأخلاق السودانية الوسطية وانتمائهم للقرى والريف والحضر، والبقاء داخل السودان الذي يعيش مواجهة خارجية مستمرة.
نحن جيل يؤمن بالديمقراطية الانتقالية، والحلول الجزئية والاتفاقيات والمفاوضات، جيل واقعي براغماتي، لسنا مثاليين كآبائنا ولسنا متعصبين للأفكار والمبادئ مثل الشباب الأصغر منا.
نحن جيل أبريل، لأن شخصياتنا السياسية ولدت في أبريل، ونضجت مع انهيار الديمقراطية الثالثة.