من قِلَّة التقدير ..!
“الضربة لا تُرعب، ما يُرعب هو انتظارها” .. ألفريد هتشكوك!
الكاتب البريطاني جورج أورويل قال في كتاب خصصه لحياة الفقر والتشرد التي عاشها في باريس ولندن: ” كنت أغسل الصحون في أقبية المطاعم، وأرصد سلوك زملائي في العمل، فلاحظت أنهم يعاملون بعضهم بعدائية وشراسة، والسبب ليس فقرهم وبؤس حياتهم، بل شعورهم باليأس وفقدانهم الأمل في التغيير ..!
وحينما سئل معلم أمريكي كان يعمل في إحدى مدارس حي عصابات شهير في لوس انجلوس، كيف استطاع أن يحول أبناء اللصوص والقتلة إلى مشاريع أكاديمية باهرة، – واستحق لذلك أغلى جائزة تقدير أمريكية وأعلى وسام ملكي بريطاني – أجاب: “لم أسمح لقوالب الوظيفة الجامدة أن تسحقني” ..!
ها هي حوادث الضرب المبرح في المدارس تظهر من جديد .. ولربما كان السبب ليس حاجة المعلم السوداني إلى إعادة بناء احترامه لذاته، وتنمية مقدراته وتطوير أدائه المهني، بل حاجته إلى اعتراف الدولة بفضله، وإعطاءه فرصاً قيادية ومادية تحقق له التوازن النفسي المنشود بعيداً عن سيطرة الحاجة والروتين ..!
ما هو الطيش الفظيع الذي قد يرتكبه طالب في مدرسة حتى يكون عقابه التربوي ضربات قاتلة ؟! .. ثم ما هو الفرق – والحال كذلك – بين وسائل التعذيب وأساليب العقاب البدني في المدارس .. ؟!
كم يبلغ طول وعرض وارتفاع تلك المسافة الفاصلة بين “العنف” و”الجريمة ” في لوائح وزارة التربية والتعليم ؟! .. وكيف ترى “هي” حالات الأذى الجسيم، والعاهات المستديمة، وخسائر الأرواح في مدارس السودان ؟! .. كم تساوي عندها حياة التلاميذ/الضحايا ..؟!
حوادث الضرب العنيف التي تقع في بعض المدارس لا تختلف عن أي جريمة جنائية تقع في أي مكان آخر، والمتهم في كلا الحالين يصبح “مجرماً” بعد صدور حكم قضائي لكفاية الأدلة .. وفي علم النفس التحليلي هنالك نظريات لتبرير هذا النوع من الجرائم يمكن تلخيصها في مقولة فرويد “الجريمة طبيعة بشرية نحاربها بالعقوبات” ..!
فضلاً عن تحليل المدرسة الاقتصادية التي تؤكد أن الجرائم دوماً وليدة ظروف اقتصادية، وتدلل على هذا بارتفاع معدلات الجرائم في فترات الأزمات الاقتصادية .. هذا هو السياق العلمي الذي ينبغي أن يناقش عبره أي سلوك تربوي عنيف يصدر عن أي مدرس، فما بالك بحوادث القتل ..؟!
حكايات ضرب التلاميذ هي آخر فصول حكايات اليأس، وفقدان الأمل، والإجهاد النفسي والاستنزاف الانفعالي الذي تسببه مشكلات الأسرة وصراعات الإدارة، وضعف العائد، وقلة الحيلة، والشعور بالحصار والرق الوظيفي، ومعاناة قلة التقدير التي يعاني منها بعض المعلمين .. والتي تتحول بمرور الوقت إلى شحنات سالبة لا يمكن تفريغها إلا بتضخيم الأخطاء ومضاعفة العقاب ..!
(أرشيف الكاتبة)