أين يكمن الخطأ؟
كنتُ قد عرضتُ عدة مقالات للعلامة الشيخ محمد الغزالي.. أحد رواد مدرسة الوسطية في الإسلام، وها أنذا أواصل نشر بعض الحوارات التي أجراها الأخ الطاهر حسن التوم مع د. عصام البشير الذي أعتبره أكبر مفكري الوسطية في العالم في الوقت الحاضر. وسأعرض كل جمعة بعضاً من القضايا الفكرية التي يثور الجدل حولها من وجهة نظر ورؤية د. عصام الذي يحتل الآن مركزاً مرموقاً في اتحاد علماء المسلمين برئاسة العالم النحرير د. يوسف القرضاوي.
* قبل أن نتعرّض لمفاهيم الحاكمية والولاء والبراء ومفهوم الجهاد وغيرها من المفاهيم الشائعة عند هذه التيارات لننظر ابتداءً في المنهج، إذ تعاني خللاً في مفهوم هذه القضايا التطبيقية، فأين يكمن خطأ منهج هذه الجماعات هل هو في التعاطي مع نصوص الكتاب والسنة سيما أن لهم أسانيدهم، نصوص ومستندات في العلم الشرعي؟
الأمر الأول: هنالك إشكالية في الفصل بين النصوص الجزئية والمقاصد الكلية. بعض الناس وقفوا عند المقاصد ونسفوا الجزئيات من الأحكام، وقابلهم طرف آخر تمسّكوا بحرفية النصوص الجزئية ولكن أغفلوا المقاصد الكلية، والمنهج الصحيح أن تربط بين النص الجزئي ومقصده الكلي. هذه واحدة.
الأمر الثاني هو الأخذ المبتسر لبعض الجزئيات عارية من سياقها الظرفي والتاريخي، أو عدم ربطها مع النصوص بعضها ببعض. هناك مثل يشاع عن هذه الطريقة وهو قول الشاعر:
ما قال ربك ويل للأُلى سكروا
بل قال ويل للمصلّينا
وتحكى طرفة أن أحدهم سأل إبليس: هل تحفظ شيئاً من القرآن؟ قال: نعم. فاستفسره: ماذا؟ قال: (ويلٌ للمصلين) سأله: ثم ماذا؟ قال: (لا تقربوا الصلاة). قال له: (يا إبليس، هلا أكملت الآيتين؟ قال له: (فاقرأوا ما تيسر منه).
وهذه هي إشكالية اعتماد النص الواحد، إذ يكون في المسألة عدة نصوص، والنصوص يفسر بعضها بعضاً. فغياب النظرة الكلية وعدم استصحاب مجموع النصوص في المسألة الواحدة أمر خاطئ، لأن النصوص بعضها خاص يُحمَل عليه العام، وبعضها مطلق يُقيِّده آخر، بعضها ناسخ، بعضها منسوخ، بعضها جرى عليه العمل، بعضها قد يكون من خصوصيات النبي عليه الصلاة والسلام.
فنحن نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم له ثلاث صفات: فهو الرسول المبلّغ عن ربه عز وجل، وهو رأس الدولة وإمام المسلمين، وهو القاضي. فقد يرِدُ منه حكم بمقتضى الفتوى والتبليغ كقوله صلى الله عليه وسلم (صلوا كما رأيتموني أصلي)، هذا حكم عام للأمة، وقد يرِدُ منه ما يكون بمقتضى القضاء، وهذا لا يكون إلا من كان على مثل صفته يقضي بين الناس، وقد يرد منه ما يكون بمقتضى الإمامة وهنا يأتي اختلاف العلماء.
مثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلاً فله سلبه) إذا قلنا بحكم الفتوى العام يجوز لكل غانم أن يأخذ نصيبه من الغنيمة دون أن يرجع إلى إذن الإمام، وإن كان بمقتضى الإمامة يحتاج إلى إذن الإمام.. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من أحيا أرضاً ميتة فهي له)، إذا كانت فتوى عامة يجوز للإنسان أن يحيي الأرض الموات وإذا كانت فتوى سلطانية بمقتضى السياسة الشرعية لا يجوز أخذها إلا بإذن الإمام.. إذن الإشكالية الثانية هي الأخذ بنصوص جزئية سواء أكان في السيرة أو النصوص الشرعية معزولة عن سياقها التاريخي أو سياقها الظرفي، أو معزولة عن مجموع النصوص التي يفسّر بعضها بعضاً.
الأمر الثالث: إهمال علم أصول الفقه الذي يبيّن درجات الأحكام، وتشيع لدى الناس قاعدة بأن الشريعة أحكامها واحدة وواضحة، وتقول له في الشريعة هنالك أولى، فيرد عليك: لا شيء في الشريعة اسمه أولى ولباب وقشور، هذا غير صحيح. الشريعة فيها أولى، أدنى وأعلى، الإيمان درجات، والكفر دركات، الذنوب كبائر وصغائر، الأوامر واجبات ومستحبات، فرائض ومندوبات، والمحرمات محرّم لذاته ومحرّم لغيره، محرّمات مقاصد، ومحرّمات وسائل، هذه كلها دليل على تفاوت درجات الأحكام، أي بمعنى آخر كل حكم في الشريعة له تسعيرة محددّة، فلا يجوز أن نقدّم ما حقه التأخير أو نؤخّر ما حقه التقديم، لا نهوّن العظيم ولا نعظّم الهين، فهنالك إغفال للعلم بمراتب الأعمال ودرجات الأحكام.
الأمر الرابع، أنهم أغفلوا سُنن التدرّج والمرحلية، قفزوا مثلاً إلى أحكام الفترة المكية. ففي الفترة المكية أمروا بأشياء معينة تلتها مراحل تدرّجت فيها الأحكام الشرعية، ولكنهم قفزوا فوق هذه الأحكام. مثلاً لا يمكن أن يقول أحدهم نأخذ أحكام الفترة المكية من حيث التحليل والتحريم، فهذا أمر قد فُرغ منه، لكن نأخذ بسنن التدرج والمرحلية في الدعوة والتربية والتعليم والتطبيق، ولكنهم أقفلوا هذا الباب.
الأمر الخامس، إغفال المنهج للشروط المتعلقة بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومجرّد أن هذا منكر يقتضي منهم العمل على تغييره، ما يسمّى بعلم المآلات، ما هو المآل الذي يؤول إليه تغيير المنكر، مثلا في بلد يعرض أفلاماً فاضحة أو خموراً فنقوم بتكسيرها، ماذا يترتب على هذا الفعل من الآثار؟ هل يزول المنكر؟ أم يترتب عليه منكر آخر؟ هم لا ينظرون إلى علم المآلات، هنالك جهل في ضبط المصطلحات الشرعية والأخذ فيها بإطلاقات معينة دون الرجوع فيها إلى أهل العلم.
وأخيراً، وهو أكبر اختلال في هذا المنهج أنهم يأخذون هذا العلم من الكتب دون أخذه من العلماء أو طريق التلقّي المنهجي الذي يعطي الإنسان الاتجاه الصحيح للتعامل مع النصوص الشرعية، وهذه من أكبر الآفات أن يقرأ أحدهم آية أو آيتين، حديثاً أو حديثين، يفهم منهما كلاماً، أو يفتح شبكة الانترنت ويجد: قال أبو فلان وقال أبو فلان، ثم يأتي ويعتبر نفسه في مقام أبي حنيفة ومالك ويقول هم رجال ونحن رجال، وكأنها معركة على الفحولة أو الذكورة، ثم يعتبر نفسه إماماً فيصدر الفتوى كيف شاء، وهذا خلل كبير من الاختلالات التي وقعوا فيها.