كابتن زروق وبقية الأحبة: رحيل الأزمنة
(1) تلقيت صبح الجمعة الماضي رسالة مقتضبة من ابن شقيقي في الخرطوم تقول: «توفي اليوم بارز ابن يوسف عريبي». الرضا بقضاء الله واجب، فهو يحيي ويميت. شاب في الرابعة والعشرين، لم يشك من أي مرض من قبل. فتح الباب ليرحب ببقية أفراد أسرته لاجتماع شملها نهار الجمعة، فسقط مغشياً عليه، ثم لقي ربه خلال سويعات، نسأل الله أن يكون راضياً مرضياً حيث مضى.
(2) لطالما اجتمع شملنا في ذاك البيت العامر في مدينة النيل، رحم الله ابراهيم مصطفى عريبي الذي جعله، على سنة أبيه، أشبه بالنزل منه بالمنزل، فكان ملتقى الأسرة، ومزار الأهل من بربر ونواحي أم درمان. قبل ذلك، كان منزل مصطفى عريبي، جد والدتي، مثل منزل والدها حسن حاج علي، رحمة الله عليهما، عامراً في كل وقت بالضيوف والزوار والطلاب المقيمين للدراسة. أصبح مفهوم المنزل لا ينفك عن هذا الفضاء الذي يموج بالحضور الدائم. ولكن معجزة ابراهيم أنه حافظ على هذه التقاليد في مكان غير المكان، وزمان غير الزمان.
(3) يوسف ـ سماه والده على الشريف يوسف الهندي- كان ولا يزال قليل الكلام، ولكنه ينطق دائماً بالحكمة الفكهة وسرعة البديهة. من أحب الناس إلى قلبي، وأكون أسعد الناس في صحبته. ذكرتني هذه الفجيعة بفقدان أخيه محمد. غرق وهو في الثانية عشرة، ولم يعد المنزل بعد «حمادة» هو المنزل، أو الدنيا هي الدنيا، رحمه الله ووالديه.
(4) ذكرني مصابنا في فقيدي الشباب فجيعتنا في ابننا علاء محمد سعيد محمد الحسن قبل عامين، وهو مصاب لم أتعايش معه بعد، مع الرضا بقضاء صاحب القضاء. أبلغني الصديق محمد سعيد بمرض علاء في محادثة هاتفية مقتضبة، ثم لم يلبث أن نعاه الناعي. لم يكن بين أن رأينا علاء طفلاً فصبياً، ثم سعدنا به طبيباً ورب أسرة إلا كلمح البصر أو هو أقرب. كذلك بارز، لم نر من طفولته وصباه إلا لمحات،، ثم فقدناهما، والله أولى بهما.
(5) عندما حمل بارز إلى المستشفى، حيث فاضت روحه، كانت فاطمة، عمة والده تصارع المرض، عافاها الله، وحياها. وهي قد رحلت سلفاً عن عالمنا نفسياً منذ برهة. لا أعرف لها نظيراً في الناس في المحبة التي تفيضها حولها. كان منزلها وزوجها الماحي عريبي، رحمه الله، في بورتسودان نزلاً مفتوحاً لأهلنا من بربر والمناصير والرباطاب، خاصة في مواسم الحج العمرة، فيغشاه الذاهبون إلى الأراضي المقدسة والآيبين منها، وكل زائر إلى تلك المدينة. وهي مع ذلك لا تغيب عن ترح أو فرح في بربر، تتجشم إليها السفر.
(6) كانت أختها الأكبر، والدة أمي، في الخامسة عشرة من عمرها حين اصطفاها الله إلى جواره، ولم تكن أمي قد بلغت شهرها السادس. رعتها فاطمة فكانت لها أماً، وظلت لنا أماً. لم يجعلها أحد تشعر بغياب أمها، بل دللت حتى أصبحت مثل الأميرات، تؤمر فتطاع. ولا أذكر قط أنني رأيت فاطمة في يوم ما في حالة تذمر أو غضب من شيء أو أحد، نسأل الله أن يفيض عليها من المحبة بما يليق بكرمه ورضانا عنها.
(7) في نفس الأسبوع نعى الناعي كابتن النور عبدالله زروق، الذي رحل عنا إلى دار البقاء بعد أن كان فارقنا برحيله عن لندن التي كان قطب رحى الجالية السودانية فيها. عند وصولنا إلى بريطانيا في مطلع الثمانينات من القرن الماضي، كان هناك بيتان في العاصمة البريطانية هما منتدى السودانيين، منزل النور في هامستيد، ومنزل ابراهيم الطيب في نايتسبريدج. وكان مكتب النور في سانت جونز وود أيضاً ملتقانا الدائم، خاصة بسبب قربه من مسجد لندن الكبير.
(8) افتقدت النور كما لم أفتقد أحداً عندما ترك لندن إلى أبو ظبي منذ نحو عقد من الزمان. وكنت أتعمد التوقف عند مكتبه كلما مررت بتلك الناحية وسمح الوقت، لأبعث له برسالة تحية. فقد ترك فراغاً كبيراً في مجتمعنا لم يسده بعده أحد. ولكن شاء الله ألا نلتقي في هذه الفانية، ألا رحمه الله وأحسن إليه.
(9) نقول على سنة إخواننا المسيحيين، إننا نحمد الله ونكثر من شكره على ما وهبنا من حياة من فقدنا من شبابنا، فإنما نفتقدهم لما أفاضوا على الحياة من سعادة وعطاء. نحمده تعالى كذلك على ما أنعم علينا به من آباء وأمهات كان العطاء الدائم شيمتهم، والمحبة تركتهم. ونشكره كذلك على ما أنعم به علينا من مودة إخوة سعدنا بقربهم، كانوا أيضاً عطاءً لا ينقطع. رحم الله من مضى منهم ومن بقي، ومتعنا بالمزيد من مآثرهم.
(10) ونحن إذ نرثيهم إنما نرثي أنفسنا وزماننا. فلم يكن غياب النور زروق عن لندن ثم رحيله عن الفانية غياب صديق فرد، وإنما «موت دنيا» بحسب تعبير المحجوب وعبدالحليم. فلم تكن داره العامرة ملتقى الأحبة في لندن فقط، بل كانت بربر صغيرة في ضاحية هامستيد، تلتقي فيها الشيخ الجعلي ومحمد يوسف وكل زائر من الأهل من بربر وضواحيها. رحم الله ذلك الرهط الكريم، وأورثنا العزاء في فقد ذلك العالم الذي رحل.