جعفر عباس

لماذا لم يتّحد السودان ومصر

يروى عن مصادر موثوق بها أن مشروع الوحدة بين مصر والسودان دفن في شوارع القاهرة نحو عام 1950 على يد رجل من النوبة السودانية، وكانت وحدة وادي النيل شعاراً تاجرت به نخب سياسية مصرية وسودانية لكسب ود الناخبين، بينما استخدمته جماهير البلدين كوسيلة للخلاص من الهيمنة البريطانية، وعلى كل حال فقد كانت تلك الوحدة تشكل مادة دسمة للمظاهرات السياسية، إلى أن كان ذلك اليوم الذي قرر فيه صاحبنا النوبي أن الوحدة بين البلدين غير ممكنة، بل مرفوضة، ويقول شهود عيان ان صاحبنا كان محمولا على الأعناق خلال مظاهرة شارك فيها سودانيون ومصريون، وهو يهتف «نيل واحد.. شعب واحد.. مصر والسودان مصير واحد»، ثم نزل من أكتاف الذين كانوا يحملونه ليلتقط أنفاسه ليعاود الهتاف مجددا، وعند هذه النقطة بالضبط كان مصير البلدين قد تقرر وتم وضع شعار الوحدة في أرشيف الجامعة العربية.
أدخل صاحبنا يده في جيبه ليخرج منديلاً يجفف به عرقه، بينما كانت الجماهير تواصل هديرها، وأحس صاحبنا بأن شيئاً ما ينقص جيبه، ولأنه كان يلبس جلبابا سودانياً متعدد الاتجاهات فقد قام بحركة اكروباتية لتفتيش جيوبه الأمامية والخلفية والجانبية وأدرك أن ما ينقص جيبه هو جزلانه أي حافظة نقوده. ولم ينفعل صاحبنا ولم يفقد أعصابه، فبكل هدوء طلب من الذين كانوا حوله أن يرفعوه على أكتافهم مجددا فتعلقت به مجددا أنظار جماهير وادي النيل الوحدوية.. فرفع يديه مشيرا بالسكوت.. ثم فجر قنبلته: مصر والسودان.. ستين ألف حته.. نيل أبيض.. نيل أرزق وحاول بعض الذين كانوا على مقربة منه انقاذ الموقف فاستجمعوا قوى حبالهم الصوتية وهتفوا: مصر والسودان.. وكانوا يعتزمون الاستمرار قائلين: «مصير واحد» ولكنه قاطعهم: نيل أبيض.. نيل أزرق.. نيل أزفت، وعندها ظهر سعد زغلول في إحدى الشرفات وقال قولته الشهيرة: مفيش فايدة!!
أدرك سعد بحسه السياسي أن قرار صاحبنا نهائي، وهذا ما فات على بقية السياسيين في مصر والسودان الذين ظلوا يلوكون عبارات مثل العلاقات الأزلية والتاريخية والخصوصية ولكن بلا طائل، ثم حاولوا الالتفاف على قرار صاحبنا النوبي وطرحوا شيئا اسمه التكامل، ثم ميثاق طرابلس (وكان فيلما هنديا يضم معمر القذافي وجعفر نميري وأنور السادات) ولكن أيضاً: مفيش فايدة، وأصبحت وحدة وادي النيل أسوأ حظا من الوحدة العربية.
والتظاهر في السودان ظاهرة وبائية، فعندما كنا في الجامعة كنا نخرج في مظاهرات عارمة في الليلة الأخيرة من كل شهر فبراير، صابّين غضبنا على شهر مارس (شهر الامتحانات)، وعندما تصل الى الحكم حكومة منتخبة، تخرج مظاهرات تنادي بسقوطها، وتستمر المظاهرات إلى أن يستولي العسكر على السلطة، فتستمر المظاهرات مجددا لتطالب بعودة الديمقراطية.
وكان من التقاليد المرعية خلال المظاهرات في العاصمة السودانية الهتاف بسقوط الولايات المتحدة، وكان من سوء حظها أن سفارتها كانت تقع في شارع الجمهورية وهو من الشوارع التي ينص القانون السوداني غير المدون على وجوب مرور المظاهرات به، ولحكمة يعلمها الخالق وحده فإن الهتاف ضد أمريكا يكون فقط بالإنجليزية «داون داون يو. اس. ايه» ولأن قوانين المظاهرات ملزمة لكافة السودانيين فإن بعض المتظاهرين يهتفون بملء حناجرهم أثناء مرورهم امام السفارة الامريكية: داون داون يونس ايه، ويعتقد البعض أن يونس هذا عدو لأهل السودان، والغريب في الأمر أن الهتاف بسقوط يو. اس. أيه أو يونس أيه كان يتردد حتى ولو كان المتظاهرون ينادون بخروج السوفييت من أفغانستان.
والشاهد في كل هذا أن قرار صاحبنا بأن تكون مصر والسودان 60 الف حتة مازال سارياً فأصبح السودان مقسماً إلى أحزاب: امة.. اتحادي.. ديمقراطي.. شيوعي.. إفريقي.. اخواني.. ولدينا اليوم أحزاب توالي وتسالي وانقسمت مصر إلى سيسيين ومرسيسيين وجهاد.. والتكفير والهجرة، والتفكير في الهجرة. ومازالت هناك تنظيمات تحت الطبع في البلدين وتعاني من أزمة أسماء لأن معظم الأسماء والشعارات استهلكت.

jafabbas19@gmail.com