د.عبد الوهاب الأفندي

بين علمانية السلطان وقرآنية الدعوة


يروي الرواة حواراً دار بين الخليفة الصالح عمر بن عبدالعزيز وابنه «الراديكالي» عبدالملك، الذي طفق يستحثه لمواجهة عشيرته من بني أمية بالحسم والتعجيل برد الحقوق منهم. فأجاب عمر قائلاً: «أخشى أن يستعينوا علي بمن أطلب هذا الحق لهم!»
كان عمر رضي الله رجلاً حكيماً، عليماً بآليات العمل السياسي، يدرك كيف كان يمكن لدولة بني أمية «العميقة» أن تؤلب عليه البسطاء الذين يريد الانتصار لهم، كما فعل أشياعهم في مصر، حين ألبوا أبناء عمال النظافة لنصرة من لا يرى لهم حقاً في الوجود أو العيش الكريم. فللسياسة منطقها كما ذكرنا ابن خلدون ومكيافيلي، والعاقل من فهم المنطق دون أن ينساق وراءه.
في مقام آخر وزمان غير ذاك، حذر السيد جمال الدين الأفغاني بأن الظاهرة الاستعمارية ليست فقط مهدداً لحريات الشعوب، بل لإنسانية الإنسان. ذلك أن تمكن جيوش استعمارية من بضعة آلاف فقط من إدارة شعوب تقدر بمئات الملايين، كما كان حال الهند تحت الاستعمار البريطاني، يوشك أن يحول بعض الشعوب إلى ما يشبه السوائم، يتولى «رعيها» قوم يحتكرون الإنسانية وما يصاحبها من سيادة وكرامة. ولهذا قضى الأفغاني عمره كله وهو يحرض الشعوب الشرقية على الانتفاض ضد الهيمنة الأجنبية حتى تسترد إنسانيتها.
يبقى السؤال المحوري هو من أين يأتي المستعمرون ورجال الدولة الأموية «العميقة» بسلطانهم ذاك؟ فما أسرع ما استعاد بني أمية دولتهم عند ما لحق عمر ببارئه، ولم يتحرك أي ممن انتصر لهم عمر لنصرة أنفسهم. وعندما انتفض الناس تحت راية العباسيين، لم تكن النتيجة الخلافة الراشدة التي تاق لها المسلمون، بل سير على عين سيرة بني أمية. ولم يتغير الأمر في عهد الفاطميين الذين ثاروا باسم التشيع، ثم الموحدين والمرابطين. ولم تخرج الدولة الصفوية عن هذه السيرة، ولا الدولة الوهابية في الجزيرة العربية، ولا دولة ولاية الفقية في إيران. كلهم معاوية إذا حسنت سيرتهم، أو يزيد لو ساءت، وبعضهم يخجل منه يزيد.
الكل اتبع «نموذج دمشق» (كما سميته في مقام آخر)، وهو نموذج لم يخترع في عهد بني أمية، بل كان قائماً في الشام من أيام عمر بن الخطاب، متعايشاً مع نموذج دولة المدينة ومتميزاً عنه. وخاصية هذا النموذج في قدرته على تفهم منطق القوة والتعايش معه.
سار علم السياسة المعاصر على سنة ابن خلدون في السعي إلى اكتناه أسرار مصادر هذه القوة وآليات عمل السلطة، بغرض تفهم هذه الآليات وتفكيكها. فقد انتقد ابن خلدون رحمه الله سذاجة بعض المصلحين في عصره ومن سابقيه لتحريضهم على الثورات تحت شعارات إحقاق الحق وإبطال الباطل، دون النظر إلى آليات القوة وقوانينها الاجتماعية، فيهلكون ويهلكون. ودعا إلى التبصر قبل الانغماس في مثل هذه المشاريع، والاستناد إلى عناصر قوة حقيقية، لأن الحق لا يقوم بلا قوة تسنده. فلأمر كان الرسل يبعثون في منعة من قومهم. ويعتبر أهم إنجاز للثورات الحديثة، وخاصة الثورة الأمريكية، أنها تعاملت مع واقعها، ولم تشأ القفز عليه، وبنت مؤسسات الحكم ليس بافتراض صلاح ورشد أهل السلطة، بل بالحرص على اتقاء شرهم وفسادهم، عبر محاصرتهم بالقوانين والمؤسسات.
ولم يسلم النظام الأمريكي مع ذلك من امتحان وجودي في صراع القيم والقوة، حين تصدى لعزم ملاك الرقيق الانفصال من الاتحاد الأمريكي، فاضطرت الدولة الاتحادية للتصدي لهم بثمن باهظ على الجميع. فالقوة لا تستمد من الحقيقة والقيم فقط، وإلا لما نزل في القرآن: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة.»
ولكن القوة لا تنبع كذلك من الموارد المادية فقط، وإن كانت هذه من مقوماتها. ولهذا تحير فيها الحكماء. وقد اجتهد الفكر الماركسي في نسبة القوة إلى تملك أدوات الانتاج، ورأى كل سلطة أخرى تبعاً لها. ولو صح هذا لما استطاع المغول الذين لم يكونوا يملكون سوى ما تحمل خيولهم اجتياح امبراطوريات بكاملها في الشرق والغرب. فآليات السلطة معقدة تعقيد الإنسان. فهي من جهة تستند إلى شرعية تقليدية أو مكتسبة، أو قواعد مرتضاة، أو كسب من علم أو مهارات عسكرية. ومن جهة أخرى تستند إلى ما يحوز صاحبها من أدوات قوة مادية.
الاستعمار البريطاني مثلاً لم يعتمد فقط على مهارات في الملاحة البحرية، وتفوق في التسليح والتكتيك العسكري، بل كذلك على مهارات إدارية وحكمة قيادية جعلت اللجوء إلى القوة العارية نادراً خلال الحقبة الاستعمارية. بنفس القدر فإن معاوية ابن أبي سفيان لم يعتمد على القمع، بل يكاد لا يلجأ إليه قط، وإنما اعتمد أكثر على الدهاء والدبلوماسية الحكيمة، والترغيب لا الترهيب.
فإذا عدنا إلى موضوعنا الأساسي، وهو وضع الحركات الإسلامية المعاصرة وعلاقتها مع السلطة، وأهم من كل ذلك وقبله، افتقارها إلى السلطة، يطرح سؤال مصادر القوة نفسه بإلحاح أكثر. ويعيدنا السؤال إلى نقطة البداية، وهي مصدر السلطة الاستعمارية. فهنا بيت القصيد، لأن واقعنا اليوم هو استمرار للحالة الاستعمارية، التي تولدت بدورها عن تفاوت في العلم والمهارات العسكرية والقدرة على استخلاص أقصى ما يمكن من الموارد والبشر. وقد أورث الاستعمار هذه الإمكانيات لنخبة صغيرة احتكرت ما احتكرت دون الآخرين، واجتهدت في إخضاع الغالبية لسلطانها كما فعل أشياعها من قبل.
كانت النتيجة الأولية لهذه المواجهة هي أن رصيد أهل هذه المناطق من العلم، وهو في غالبه علم ديني أو لغوي، فقد كل قيمته الدنيوية بين عشية وضحاها، وأخرج حملته والمستظهرين به من التاريخ. فلم يعد هناك مكان في الاقتصاد الحديث ولا دواليب الدولة لمن كان من حملة ذلك التراث. واستغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن ترفع تلك الراية مرة أخرى، ولكن هذه المرة من قبل فئة تزودت بالعلم الحديث وتقوت به، أو على الأقل كانت تتزود شيئاً من هوامشه، كما كان حال الشيخين الأفغاني وتلميذه محمد عبده. وكانت تلك آية في حد ذاتها، أن يكون مصدر قوة الدعاة إلى العودة إلى التراث هو شيء من بعدهم عنه.
وقف من سموا أنفسهم دعاة العودة إلا الإسلام على باب الحداثة وأهلها، فاعتبروا متطفلين ومكدرين لصفو الانتقال إلى العالم الجديد، كمن يجر الناس إلى الوراء. ولم يكن الدعاة رافضين للحداثة، ولكنهم لم يكونوا متحمسين لها، ولا متلهفين إلى معاقرتها. فقد كانوا يتنزهون عن كثير من مصادر قوتها الأساسية: فالمصارف موئل الربا المحرم، والإعلام مقام تهتك ولغو ولهو حديث لا يليق بأهل التقى. أما الجيوش فهي صنيعة الاستعمار ووراثته، والشرطة جهاز قمع وحراسة فساد. أما القضاء فحكم بغير ما أنزل الله. فليس غريباً إذن أن يظلوا غرباء عن السلطة، وهي عنهم غريبة.
وهذا يطرح بدوره أسئلة محورية حول طلب السلطة لمن يدعو إلى الفضائل ويجعل همه تذكير الناس بدينهم. وإذا طلبها، هل يطلبها باسم الدين، أم يتوسل إليها وسائلها من المال ورباط الخيل؟
سؤال لا تسهل إجابته.