ضياء الدين بلال

(صدق أولا تصدق)!


سمعت عنه الكثير في عموم ولاية الجزيرة وبمدينة ود مدني تحديداً.
لم أصدق أغلب ما قِيل، الصحافة علمتنا أن نشتبه في كل الروايات الشفاهية.
كثير من القصص الواقعية الصغيرة تضاف إليها مادة بروميد البوتاسيوم، لتنتفخ في الخيال وتكبر بأضعاف وزنها الحقيقي.
وفي مصطلح علم الحديث يعرف الحديث المتواتر بأنه “هو الذي رواه جماعة يستحيل في العادة تواطؤهم على الكذب”.
سمعت واتصلت وتحققت، ولم أجد غير التطابق التام في الروايات مع اختلاف طفيف في التفاصيل.
قصة أقرب للخيال. بل ربما تصلح لأن تضاف إلى فصول روايات غابريال غارسيا ماركيز، وإن كان بها شبه ما برائعة الروائي العالمي باتريك زوسكند (العطر).
عرفت اسمه منذ الصغر، أشهر عنبر بمستشفى ود مدني مسمى باسمه، عنبر شيخ العرب، عنبر للفقراء والمساكين ومرضى السبيل.
وشيخ العرب هذا رجل كان من أثرياء مدينة ود مدني ومن كبار تجار المحاصيل، مديد القامة، قوي الشكيمة. في زمن كان فيه (القمح، أقمح) و(السمح ، أسمح)، وللقرش طعم ومذاق ورائحة.
والجزيرة كانت خضراء تسر الزارعين، وود مدني فتاة حسناء مشاغبة تغري ولا تنال.
قادرة – دون تحريض- على صناعة الابتسامة، حينما كانت الابتسامة طبيعية خالية من المحسنات الكيميائية.
وقتها، لم تكن السلطات في حاجة لاستجداء الزائرين عبر لافتة مكتوب عليها (ابتسم، أنت في ود مدني)!
شيخ العرب يترك الدنيا وما فيها ليفرِّغ نفسه تماماً لمهام لا يقوم بها غيره، يتحرك في مستشفى ود مدني بطاقة منظمة خيرية وبإمكانياتها.
ويقضي ليله في حفر القبور لموتى افتراضيين لم تخرج أرواحهم من أجسادهم بعد.
وعندما يخذله جسده المرهق وينال منه التعب، يخلد إلى الراحة في أحد القبور الجاهزة وتأخذه سنة نوم، إلى أن يوقظه موقظ.
تفرَّغ تماماً لرعاية فقراء المرضى ومساكينهم من فاقدي الاهتمام الأسري.
يطعمهم ويكسوهم ويشتري لهم الدواء، بل يقوم هو بمفرده بمساعدتهم على تأدية احتياجاتهم الطبيعية، وكثيراً ما كان يقوم بغسل ملابسهم، وغسل أجسادهم بعد الموت!
أكفانه جاهزة وعطوره مُعدَّة، يفعل ذلك بلا منٍّ ولا رياء، ولا عشماً في أن تصطاده فلاشات المصورين وتحتفي به صفحات المنوعات!
وفي مرات كثيرة تستعين به مصحة الأمراض العقلية والنفسية بود مدني في تنظيف المرضى وغسلهم.
ما كان يفعله شيخ العرب، من أفعال استثنائية تقترب من الكرامات، لا تفعله اليوم المنظمات والهيئات التي لها ميزانيات معدة وعربات ذات دفع رباعي!
وللمفارقة الموجعة، قبل أيام من الاحتفال بعشرينية رحيل (شيخ العرب) بمدينة ود مدني، رحل بهدوء مأساوي مواطن بسيط يدعى (علي آدم محمد) من أحد العنابر المهملة بمستشفى ود مدني!
المريض المسكين الفاقد للسند الأسري، روى قصته مراسل هذه الصحيفة الهمام “عمران الجميعابي”، وكيف نُقل للمستشفى بعد تعرضه لحادث سير وأجريت له عملية جراحية لكسر تعرض له في فخذه.
المريض تلقى العلاجات اللازمة ولكن عدم وجود مرافق يشاطره آلامه جعل حالته الصحية تتراجع وتحوَّل إلى هيكل عظمي إلى أن تلاشى.
مصدر طبي بالمستشفى قال لعمران: (عدم وجود مرافق للمريض لتقديم المساعدة له من حمام وغسل ملابس وغيره، أدى لانبعاث روائح كريهة بالعنبر ما أدى إلى إفراغه من المرضى وترك المريض للإقامة فيه وحيداً)!.
رحل المريض (محمد) عن الدنيا بكسر في الفخذ وطعن في الخاطر وجرح في الوجدان!
رحل في زمن غاب عنه (شيخ العرب) ولم تحضر فيه منظمات الرعاية ولا صناديق الضمان، والوالي بروف الزبير يرقص بالسيف ويطرب للدوبيت!
زميلنا الأستاذ/ محمد شيخ العرب، يحكي عن والده وكيف أن روائح عطور الموتى كانت لا تفارق ملابسه وأنه كان فاقداً لحاسة الشم، شيخ العرب كان هو الوجه الآخر لغرونوي بطل رواية (العطر)!
إذا كانت عظمة البطل (جان باتيست غرونوي) في رواية (العطر) أن وهبه الله أنفاً أسطورياً لتمييز الروائح، فإن شيخ العرب حرمه الله من حاسة الشم ليقوم بمهام لا يقوم بها غيره، وتلك هي الكرامة الكبرى!