بين سلطة الإسلام وسلطة الإسلاميين
■ تكتسب مقالة القاضي أبو بكر بن العربي عن تحول أمر الأمة من إمارة العلماء إلى إمارة غير أهل العلم، ثم تسلط الجند أهمية لكونها عبرت عن قناعة تقليدية استخدمت لتبرير ما يسمى بـ «ولاية الفقيه» باعتبارها المفتاح لإصلاح الخلل. وقد ظهرت مقولة «ولاية الفقيه» منذ أيام إمام الحرمين الجويني، وقد عاصره ابن العربي وتتلمذ على بعض تلامذته. وحتى من يرفضها يقول بولاية الفقيه بمعنى احتكاره لتفسير وتأويل النصوص وتحرير الأحكام، أي أن يكون مشرعاً وحيداً.
مفهوم الفقيه عند هؤلاء هو من جلس إلى سابقيه من المتخصصين في دراسة النصوص ومجادلات طائفة الفقهاء، حتى يجاز منهم ثم يصبح بدوره سلطة. ولكن عمر بن الخطاب وبقية الخلفاء الراشدين لم يكونوا «علماء» بهذا المعنى، بل كانوا فقهاء بالمعنى الأدق للفقه، وهو تشرب روح الدين وفهم مقاصد الشرع. فلم يكن هؤلاء من حفاظ القرآن، كما لم يكونوا من متتبعي الأحاديث. بل إن عمر كان يعاقب المشتغلين بالحديث، كما أنه تأول كثيراً من نصوص القرآن الصريحة استناداً إلى مقاصد الشرع العليا. وفي هذا المقام فإن الحديث عن سلطان «الفقهاء» بالمعنى التقليدي قد يكون مخالفاً لمغزى التدين. وقد انتقد الإمام الغزالي فقهاء عصره بسبب طلبهم للدنيا بالدين، وتنافسهم على مناصب القضاء وولاية الأموال وغيرها من مصادر الثراء. بل نجد حتى آية الله الخميني أكثر من انتقاد الفقهاء التقليديين لاشتغالهم بالتفاصيل وتغييب الصورة الكلية.
وهذا يقودنا إلى واقع اليوم وسعي الحركات الإسلامية لتمثل سلطة الإسلام في عصور غير تلك التي تحدث فيها وعنها ابن العربي والجويني، وساد فيها توافق على مرجعية سلطان الدين، فلم يكن الخلاف إلا على من يمثله. أما اليوم، فإن مرجعية الدين مرفوضة من أساسها عند غالب أهل الأمر. أما الفقهاء فإنهم لا يتصدون للدفاع عن هذه المرجعية، مما دفع إلى بروز حركات مثل الإخوان المسلمين للدفاع عنها والمناداة بعودتها. ومعروف أن مؤسس حركة الإخوان المسلمين الشاب حسن البنا لم يتصد لمهمته إلا بعد أن قضى ردحاً من الزمن وهو يطوف على كبار العلماء وهو يستعطفهم للتصدي لقيادة حملة الدفاع عن الإسلام، بدون جدوى.
في هذا الوضع، أصبح دعاة إحياء السلطة الدينية في مقام المعارضة للسلطات الفاعلة على الأرض، فيما وقفت المؤسسة الدينية التقليدية على الحياد في هذا الصراع. وقد يقول قائل إن هذا هو نفس الوضع الذي ساد منذ نهاية الخلافة الراشدة، حيث تمت إزاحة السلطة الدينية لصالح سلطة الأمر الواقع، واتخذ معظم «العلماء» ما يشبه الحياد في الصراع الذي نشأ. ولكن الفرق بالطبع هو أن سلطة الخلافة الراشدة لم تستمد سلطانها فقط من رصيدها الديني-الأخلاقي، بل كذلك من فعاليتها. ولم تتهاو شرعيتها الدينية، التي تعرضت للتحدي في نهايات عهد عثمان، إلا بعد أن تصدعت شرعيتها وفعاليتها معاً في عهد علي، حيث فقدت السيطرة على أجزاء واسعة من دار الإسلام، كما ووجهت بثورات دينية وسياسية متعددة ومتعاقبة.
بنفس القدر فإن الأنظمة التي أعقبت الخلافة الراشدة لم تتنكر للدين، حيث كان الخليفة يؤم الصلاة ويحاور العلماء ويقيم الحدود، ويقود الجهاد ويردع الزنادقة والمارقين. بل إن الثورة العباسية رفعت شعار إعادة صحيح الخلافة وتمام سلطة الدين. وبالتالي فإن تلك الفترات لا تشبه الواقع المعاصر الذي أصبح يرفض سلطة الدين من حيث المبدأ، ويخضع لسلطان نظام دولي الإسلام فيه دين أقلية، ومعظم حكام دار الإسلام، إن لم يكن جميعهم، لا يريدون الخضوع لسلطان الدين.
ولكن إذا كان هذا هو الحال، فمن أين تستمد الحركات الإسلامية المعاصرة سلطانها؟ ولماذا يخشاها الحكام ويريدون إسكات صوتها حتى يخلو لهم الجو لممارسة سلطانهم غير المنازع؟ من البدهي القول بأن أي سلطة في هذه الدنيا إنما تنبع من الخلق، أي من الأرض لا من السماء. فقد جعل الله الإنسان خليفة في الأرض، وما لم توجد فئة تؤمن بدين معين وتدافع عنه، فإن رؤية ذلك الدين لطبيعة السلطة وكيفية ممارستها لا تكون ذات تأثير. فلم تكن للرسول صلى الله عليه وسلم سلطة في مكة (ولا الطائف)، بل بالعكس تعرض وصحبه للاعتداءات المتكررة وأجير على مغادرة وطنه مكة. وإنما أصبحت للرسول الكريم سلطة عندما آمن به أهل المدينة، وتحالفوا مع مؤمني قريش للدفاع عن العقيدة الجديدة ونبيها. كان محورهذه السلطة شخص الرسول وتفويضه الإلهي من جهة، والقبول بسلطانه من الغالبية من جهة أخرى، كما كانت محكومة بالوحي الذي كثيراً ما نزل باستدراكات على قرارات النبي كما في واقعة أسرى بدر وغيرها. وقد ذكر النبي كما ذكر داوود من قبل بوجود ميزان للحق فوق قرارات الأنبياء: «فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل اللّه»؛ «ولا تكن للخائنين خصيماً». ذكرالنبي كذلك بضرورة مشاورة أتباعه وأخذ آرائهم في الحسبان. فالمشروعية إذن ثلاثية الأبعاد: سماوية يجسدها ما أرساه الوحي من مبادئ، ونبوية قوامها اجتهادات النبي وما ألهمه من قرارات، وشعبية قوامها خلاصة شورى المؤمنين.
في عصرنا هذا بالطبع لم يعد للنبوة مكان، وإنما النصوص مجسدة للوحي، وجمهور المؤمنين باعتبارهم حملة الرسالة والموكلين بها. ومن ناحية نظرية يصبح الفقهاء والعلماء بموجب هذا التحليل هم حملة السلطة الحقيقيون. ولكن كما أسلفنا فإن مجرد تلاوة النصوص لا يكفي وحدها لتمثل هذه السلطة، فما أكثر من حملوا هذه الرسالة فلم يحملوها، فأصبح كمثل الحمار يحمل أسفاراً بحسب التعبير القرآني. وبسبب تقاعس الفقهاء التقليديين وقلة كفاءتهم (فقد كان فيهم وما يزال عجز عن مخاطبة واقع الناس) وجد فراغ تصدى من أصبحوا يعرفون بالإسلاميين لملئه. وقد سبقت الإرادة العلم عند هذه الفئة، لأن غالبهم لم يكونوا متخصصين في علوم الدين، كما سبق رفض الواقع عندهم تصور البديل. يمكن إذن توصيف الإسلاميين بأنهم الفئة التي تصدت لحمل الأمانة التي أشفقت منها السماوات والأرض، وهي أمانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الخاصية المعرفة لهذه الأمة، والتي جعلتها مستحقة لوصف أنها خير أمة أخرجت للناس. والأصح القول بأنها الفئة التي تصدت لإنكار المنكر، ورأسه اتباع سنة بني إسرائيل حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. وقد سعى الناشطون لتفقيه أنفسهم في الدين بعد التصدي للمهمة، وليس قبلها، ثم حشدوا الأنصار، واتخذوا من أسباب القوة ما أمكنهم. وقد أسلفنا في غير هذا اليوم أن شعبية هذه الحركات ومصادر قوتها لم تكن كلها بسبب رسالتها الدينية. فقد ساندها البعض لما تصدت له من أعمال البر، وآخرون لأنها تصدت لقضايا كبرى، مثل مقاومة الظلم والعدوان في فلسطين وغيرها، وآخرون من منطلقات قبلية أو طائفية أو غير ذلك. وفي أحيان أخرى استعانت أو أعينت بأموال أفاء الله به عليها، فتقوت بها، كما تقوت بتحالفات مع الحكام وأصحاب النفوذ، وفي أحيان أخرى، كما حدث في إيران، تقوت بسلطان الدولة.
لكل هذا فإن أكثر ما تعادى بسببه هذه الحركات ليس هو فحوى دعوتها، وإنما شعبيتها ونفوذها. إذ لو كانت تدعو وهي مستضعفة معزولة، لما كان يعبأ بها أحد. ولكن هذا يطرح أسئلة أخرى حول ديناميات قوة الحركات الإسلامية ومآلاتها.