يوسف عبد المنان

يوميات (6/6)


أشرقت شمس ذلك الصباح.. ونسائم الخريف الباردة تهب من الجنوب الغربي.. رائحة التراب.. العشب الجاف.. قيل والعهدة على الرواة إن (طائر البوم) قد نعق ليلاً والعرب تتطير من صوت البوم.. حتى إن أديباً وقانونياً مثل “د. عبد الله أحمد النعيم” القيادي في حزب الجمهوريين، حينما ترجم كتاب د. “فرانسيس دينق مجوك” (صيحة البوم) اختار عنواناً إيحائياً للترجمة العربية (طائر الشؤم). في ذلك الليل الطويل نعق طائر الشؤم على قمة جبل المك رحال زعيم قبيلة كادقلي الذي يمثل قيمة اجتماعية وسياسية كبيرة، بدأت المسافة التي تفصل بين الصديقين الحميمين “هارون” و”الحلو” في التباعد.. واتخذت الأمتار التي تفصل بين منزل نائب الوالي “الحلو” بالقرب من وزارة المالية ومنزل “هارون” بالقرب من السوق الكبير كالمسافة بين “كاودا” و”أم درمان”.. أصبح منزل “الحلو” قلعة حصينة من العسكريين.. جوالات الرمل.. خنادق.. حفرت بليل.. استدعاء لقادة مقاتلين في الجيش الشعبي جاء من أم دورين “حمزة الجمري”.. وجاء من أم سردبة “عبود أندراوس” وجاء من “الرقضيط و”أم دولو” القائد “كوة إدريس”، واختفت بعض الوجوه من المسرح الاجتماعي والسياسي. شاهدت وأنا في طريقي من دكان “حمدان علي البولاد” البرلمان الشعبي لسكان كادقلي إلى حي (الرديف) القيادي في الحركة الشعبية “حمدين إبراهيم” يرتدي ملابس عسكرية، ألقيت عليه التحية جاء الرد فاتراً.. ماذا هناك تبدل “حمدين إبراهيم” الذي عرفته في حزب (المؤتمر الشعبي) بعد المفاصلة الشهيرة خطيباً وقائداً فذاً.. لكن حملته الضغائن للانضمام للحركة الشعبية.. ماذا حدث؟؟ أعلنت الحكومة في الصباح عن وصول وفد سياسي رفيع من الخرطوم يمثل المؤتمر الوطني والحركة الشعبية في محاولة أخيرة لإنقاذ المنطقة، بل إنقاذ السودان من نشوب حرب جديدة.. كان “أحمد هارون” الوالي المنتخب والعريس الذي لم يزف لعروسته يعد أشقى الناس بحصاد التفاوض البائس.. لكن وصول الفريق أمن “يحيى حسين” والفريق “فقيري” نائب مدير جهاز الأمن، والفريق “مجاك” النائب الأول لمدير جهاز الأمن و”ياسر عرمان” و”مالك عقار” و”إدريس محمد عبد القادر” و”سيد الخطيب” والمهندس “إبراهيم محمود حامد” والفريق ركن “عصمت عبد الرحمن زين العابدين” بمثابة ضوء خافت في آخر النفق وبارقة أمل في إنقاذ الموقف من (اندلاع الحرب). وقد اختارت الدبلوماسية النرويجية “هيلدا جونسون” وصف اندلاع الحرب عنواناً لكتابها عن مفاوضات نيفاشا.. تبددت أحلام الاستقرار.. والنماء ومشروعات الطرق التي أخذت تشق قلب الجبال إلى شبح حرب قادمة لا يعرف إلى أين تؤدي بنا في قادم الأيام والمواعيد.. ولا عزاء حتى في أبيات شاعر مثل “مصطفى سند” يعبر عن شيء من حالنا في ذلك اليوم.
معابر للجحيم للمعاناة التي دخلت مكامن زهونا
وعروش حكمتنا ومنهج صبرنا لنتذوق بلواها
أنا لو كان قوس عروبها عمري
لصندلت الجوانح بهجة وشددت قيثاري
ولكن الذين تناسخوا بطرا سنين شحوبها
وتسنموا قصم الأسى ظهور موتاها
وثبوا على غدها المسمر في شجون الغيب
يترقبون أن تسخوا ذواملها المدلة
كرة أخرى وأن تصفوا مراياها
سيارات تغوص في أعماق المدينة غرباً حيث ترددت أخبار عن انتقال “عبد العزيز الحلو” من منزله القريب من منزل “هارون” إلى جبل يقع غرب كادقلي يسمى (حجر النار) ليعصمه من طوفان قادم.. وتتواتر الأخبار عن تعزيزات عسكرية قادمة من الجنوب لقوات الجيش الشعبي والمدينة تقبض أنفاساً.. العسكريون في الطرفين (ضربوا بروجي) الحرب.. والمدنيون يتفاوضون لإنقاذ المدينة والولاية والسودان.. تعود السيارات التي حملت الوفد القادم من الخرطوم وقد تلطخت (بالخبوب والطين). انقسم وفد الخرطوم الذي جاء على متن طائرة واحدة لوفدين وطني وحركة شعبية.. الوجوه التي صنعت الحدث في نيفاشا علاها الحزن والكدر والهم والإحساس بالفشل.. وشبح الموت يلوح.. ورائحة الدم تفوح.. وقد تضاءلت فرص الإنقاذ إلى ما دون الـ(30%).. تبادل الوفدان الأوراق لتصبح أرواح الناس ومصائر الشعب معلقة على أوراق يكتبها نخبة من الأفندية والعسكر.. اجتماعات امتدت لأكثر من ثلاث ساعات بقصر الضيافة الذي شيده المرحوم “محمود حسيب” بالقرب من جبل المك رحال.. أكثر من ثلاثة ملايين هم سكان ولاية جنوب كردفان حينذاك بات مصيرهم (معلقاً) على ذمة سبعة رجال وامرأة واحدة هي “د. تابيتا بطرس”.. صدر بيان مشترك قبل إقلاع الطائرة مطار كادقلي عائدة للخرطوم وهي تحمل وفداً فشل في التوافق على وقف انحدار كرة اللهب التي أخذت تتدحرج بسرعة نحو إشعال نيران الحريق.. كان قائد الطائرة يسرع الخطى ليسابق الظلام.. حينما رفع “مالك عقار” يديه مودعاً “أحمد هارون” الذي لا تفارق ابتسامته الوجه الذي لا تهزمه المصاعب.. كانت أصوات مدفعية ثقيلة أخذت تدك الأطراف الغربية من المدينة. امرأة من ضباط الجيش الشعبي كانت تثق في رجالها وتعلم تفاصيل المعركة القادمة، وقفت أمام مولانا “أحمد هارون” وهي تقول: (يا ناس المؤتمر الوطني أبقوا رجال الليلة الرجال وصلوا). حاول (تعشيقة) وهو سائق “أحمد هارون” الوفي المخلص من أبناء كادقلي وظل معه لأكثر من (20) عاماً.. حاول التصدي لها.. منعه “هارون”. أحد قادة الحركة الشعبية ونائب رئيس أركان قواتها القائد “مكي مهنا” كان في وداع الوفد المشترك ومعه نائب “عبد العزيز الحلو” ووزير المياه “تاو كنجلا”.. كل من القائدين ركب سيارته.. لكن الحرب وقعت.. تناثرت جثث الضحايا في أم بطاح.. وحجر النار.. وموكب مولانا “أحمد هارون” يتعرض لكمين شاركت فيه ثلاث عربات عليها مدافع دوشكا ورباعي.. ورشاشات.. السائق تعشيقة بمهارته الفائقة يقود سيارة “أحمد هارون” بعد أن نزع عنها (البيرق) استخدمت فرق الحماية أقصى التدابير التي تعلمتها في المعاهد العسكرية لحماية الشخصيات المهمة.. قادة الحركة الشعبية “مكي مهنا” و”تاو كنجلا” أصبحا أسرين في أيدي القوات السودانية بعد أن كانا قبل ساعة فقط وزير وقائد ثاني القوات المشتركة، حينما وصل ركب “أحمد هارون” مباني مشروع الإيقاد ومقر منظمة الهجرة الدولية بدأت هجمات قوات “عبد العزيز الحلو” تزداد ضراوة.. ويتصاعد اللهب من السيارات المحترقة.. وأصوات صراخ.. هنا وهناك.. وبات التمييز صعباً بين العدو والصديق.. وفي حوالي الساعة السابعة وصلت خمس دبابات من الدلنج لكادقلي.. اللواء “الباهي” قائد الفرقة (14) يقود المعركة ببصيرة والحرب أصبحت حرب مدينة وبالقانون حرب المدن مسؤولية الشرطة وجهاز الأمن، لكن ما يحدث في كادقلي يوم 6/6/ الساعة (6) كان تمرداً على الدولة.. صدرت التوجيهات العسكرية بوضع القائد “مكي مهنا” والوزير السابق “تاو كنجلا” ضمن الأسرى، لكن مولانا “أحمد هارون” رفض ذلك فأبقى عليهما في منزله وتحت حمايته الخاصة لمدة (3) أيام. وقال “هارون” للقائد “مهنا” الآن وقعت الحرب ليس من الأخلاق السودانية ولا من القيم أن نتركك لتقتل وقد أصبحت أسيراً.. إذا كنتم ترغبون في الالتحاق بـ”عبد العزيز الحلو” في جبل حجر بيننا وبينه النار والذخائر.. وإذا أطلقت سراحكم لن نضمن حياتكم!! أنا مستعد لتسليمكم للأمم المتحدة لترحيلكم لنيروبي وبعدها تصبحون أحراراً في العودة للميدان لقتالنا أو الانخراط في النشاط السياسي.. اختار الأسيران “مهنا” و”تاو” مغادرة كادقلي بطائرة الأمم المتحدة لنيروبي.. لحظة الوداع كانت المدينة قد غرقت في الدم وشبعت في الموت.. واستغاث “هارون” بفرق الهلال الأحمر من كل السودان للمساعدة في دفن الجثث ونظافة المدينة من روائح الموتى التي تحلل بعضها ونهشها الدود والكلاب الضالة. ذرف “مهنا” الدموع لموقف مولانا “هارون” الإنساني ومنذ تلك اللحظة كان هتاف العسكريين لرجل أحبهم وأحبوه (مولانا فك الزول).. تلاشت الآمال في السلام الدائم والاستقرار والتنمية وتبددت الأحلام والتطلعات وبدأ فصل جديد من تاريخ المنطقة التي تدحرجت وتوقفت كل مشروعات التنمية بها، لقد حلمنا نحن أهل جبال النوبة بالوطن الحر الديمقراطي، ولكن فجأة تحترق بلادنا بنار مطالعنا قوافي النشيد.. أطبقت كادقلي جفنيها للنوم وهي مثل لوممبا حينما قتل حلمه البلجيكيون وأنشد “صلاح أحمد إبراهيم” دامعاً يقول:
هل سمعتم آخر الليل وقد ران على الناس الوسن
هل سمعتم سنة السكين في متن المسن
ورأيتم ضاوياً عان وحيد
عاري المنكب في رسغيه أنياب الحديد
آخر الليل غفا..
يا حلماً تبدد وأملاً خاب وكل جمعة وأنتم بخير.