الزين الصافي.. الريح آتية وبيوتهم قش
كانت ليلة السبت وفجر الأحد الماضي كانت الفجيعة كبيرة، ليست بالنسبة للتونسيين من عشاقة فحسب، بل لكل الذين كانوا منخرطين في تكريس وترسيخ (الغناء المتلزم) الذي مثّل الراحل الفنان التونسي العظيم (الزين الصافي) أحد أعمدته الصلبة ضمن تيار جارف ابتدر اشتغاله على هذا النوع من الفن خاصة (الغناء)، منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي.
ليلة السبت، رحل الزين الصافي عن عمر يناهز الـ (55) سنة، تاركاً إرثاً غنائياً نادراً، قلَّ نظيره، غنَّى للإنسان أين ما وجد، للحب، للحياة، للكرامة، للحرية، للبسطاء والغلابة. كيف لا وهو سليل فرقة (أمازيغن) الغنائية التي انطلق من خلالها إلى رحابة هذه (الدنيا الفسيحة)، ثم بعد استقلاله عنها ابتدر أداءه (الفردي) المميّز بأغاني (الشيخ إمام)، إلى أن شقّ طريقة مكرساً نفسه رقماً لا يمكن تجاوزه في ظل تيار عريض وجارف وحراك اجتماعي يشتغل بكفاءة ضد خيارات الـ (نيوليبرالية) التي انتهجتها الحكومات العربية ولا تزال.
مُدرس اللغة الإنجليزية اليساري، وعازف العود الحريف والملحن البارع والمغني الحاذق، غنَّى لبنت (القمرة والغريب) “بنت القمرة عشقتني وأنا غريب/ ما نعرفش اللي في بلاد الغربة الحبّ صعيب/ شجره تمنيتك في قلبي فروعها تظلّل ع القلبِ/ عروقها تنبت من قلبي”. وغنَّى لحرية الشعوب وللطبقات الفقيرة، غنَّى للعمال وغنَّى للبحارة “بحارة بحارة في مراكب سيارة/ الموج العالي دنيا دوارة/ يا ملح البحار يا رفيق الأسفار/ قل لطيور الريح تعالي/ شقي بينا الموج العالي”. وندَّد بظلم الطبقة الحاكمة وأدان فسادها وبشَّر بدنو ساعة الحرية والانعتاق، وكان حين يُغنِّي “من أين لكم هذا؟ والبرد يغطينا/ بل أين لكم هذا؟ والجوع يعادينا/ دقت دقت ساعتكم دقت/ الريح تحصاركم والشمس تنادينا/ الريح آتية وبيوتهم قشُ والكف عارية وزجاجهم هشُ”، يتحوَّل المسرح إلى جيش عرمرم من الثوَّار والمناضلين من أجل لقمة العيش والحياة بحريَّة وكرامة ضد الظلم والذل، يرددون خلفه “لا نطيق الذل ولا نحمل كلمة عزارة/ لا غياب الأحباب يضيع الوقت وما تفيدك من بعد دبارة/ رجليك من الحفا ما طابت/ ظهرك من الحمل ما ملّ”.
صحيح، ينتمي الراحل الزين الصافي إلى الإنسان الحر.. إلى الطبقات المسحوقة وإلى الغناء الملتزم، لكنه غنَّى للحب وللعشق بذات الالتزام، وكان يختار نصوصه بدقة، فغنَّى أشعار محمود درويش، منور صمادح، آدم فتحي، الصغير أولاد أحمد، الحمادي العجمي وغيرهم.
هذا الالتزام بقضايا الجماهير جعله فناناً (غير مرغوب فيه) من قبل السلطة – أي كانت – فالسلطة بطبيعتها مستبدة ما لم تُلجم وتُكبح وتُروض عبر الآليات الديمقراطية.
رحل الزين الصافي، لكن إرثه سيظل باقياً فينا، نغني خلفه (دقت دقت دقت).