أَبقَى وزير !
-1-
أكاد أجزم، لا توجد دولة يتم فيها اهتمام ومتابعة كبيرة بتشكيل الحكومات مثل ما يحدث في السودان.
المفارقة الغريبة أن التشكيل الوزاري الأخير وجد متابعة أكثر من الانتخابات!
أوضح مؤشر بالنسبة لنا في عالم الصحافة هو أرقام التوزيع.
في أيام الانتخابات الأخيرة التي وجدت تغطية متميزة من الصحف لم ترتفع نسب التوزيع بل تراجعت في بعض الصحف.
أما في أيام التشكيل الوزاري الأخير تصاعدت أرقام التوزيع في كل الصحف وفي بعضها إلى الضعف!
بالنسبة لي ما حدث يُقَدِّم مختصراً مفيداً للأزمة السياسية القائمة في السودان، أزمة التكالب والصراع على المناصب والمقاعد الوزارية.
-2-
أكثر ما أدهشني، عدد من ناشئة السياسة ومحدودي القدرات كانوا يتوقعون أن يأتي اسمهم ضمن التشكيلات الوزارية!
صحيح المناصب أصبحت جاذبة بصورة لم تكن مألوفة من قبل، ولكن الأغرب من ذلك اتساع قاعدة من يظنون أنفسهم أهلاً لتقلد تلك المناصب!
قلت لبعض الأصدقاء اللحظة التي وصل فيها مني أركو مناوي برافعة السلاح للقصر الجمهوري مساعداً للرئيس و بمؤهلات محدودة جدًا، في مقابل آخرين في المؤتمر الوطني لم تأتِ بهم مقدرات ولا مؤهلات للمناصب ولكن حسابات أخرى، أصبح سقف التطلعات مفتوحاً على مصراعيه أمام كل شخص له الرغبة في الترقي السياسي بغض النظر عن إمكاناته ومؤهلاته.
السلاح والانتماء الجهوي والقبلي يحققان ما لا تحققه الشهادات والسير الذاتية المرصعة بالإنجازات والشهادات.
-3-
كنت أقول دائمًا إن الحرس الذي يقف خلف مني أركو مناوي قد يكون لديه طموح أن يجلس في مكانه، فهو يرى في قرارة نفسه أنه لا يقل شأناً عن من يحرسه!
المسألة باتت مفتوحة على كل شيء، والتطلعات غير موضوعية ومطلقة، ولا يوجد نظام معياري لحسم التنافس وتحديد آليات الترقي السياسي.
أضحكني دكتور عبد الله علي إبراهيم وهو يعلق قبل سنوات على حوار صحفي تم فيه تعريف المحاور ـ وهو واحد من القيادات الوسيطة بإحدى حركات دارفور ـ بأنه خاطف طائرة الفاشر الشهيرة!
دكتور عبد الله بسخريته المحببة علق: (زمان كانوا بعَرِّفوا السياسيين باتحادات الطلاب؛ كان رئيس اتحاد جامعة الخرطوم، أو رئيس المجلس الأربعيني، أو أحد قادة ثورة أكتوبر أو إبريل، الآن أصبحوا يعرفونهم باختطاف الطائرات)!.
-4-
الأزمة مركبة وذات بعدين.
المناصب أضحت لديها قيمة مادية ومجتمعية عالية، وإلا كيف نفسر تكالب كبار الأطباء والمحامين على مقاعد مجلس الوزراء؟!
أعرف طبيباً كبيراً ناجحاً في عمله ورغم ذلك يطمح بأن يصبح وزيراً ولو في ولاية طرفية!
ربما كان الحل الأمثل خفض القيمة المادية والاجتماعية للمنصب السياسي لتقل جاذبيته إلى الحد المعقول، حتى لا يغري محدودي القدرات ولا أصحاب التميز المهني بترك مهنهم متفرغين للعمل السياسي.
في مقابل ذلك تتم تقوية أجهزة الدولة الخاصة بالخدمة المدنية والعسكرية حتى تُغني شاغليها عن التفكير في المقاعد الوزارية.
السياسيون دائماً هم نجوم المجتمعات المأزومة!
-5-
في بريطانيا ظل ديفيد كاميرون رئيس الوزراء يستغل مترو الأنفاق في حركته من المنزل إلى المكتب.
وفي روسيا حرص وزير الخارجية سيرجى لافروف، على استقبال نظيره الأمريكي جون كيري، بسيارة روسية قديمة أُنتجت بعد انتهاء الحرب العالمية عام 1945م.
حتى في الدول القريبة لنا، إثيوبيا وإريتريا، تجد الوزراء يمارسون حياتهم العادية دون مظاهر سلطوية تُمَيّزهم عن غيرهم من المواطنين!.
في السودان لمحمد طاهر إيلا تجربة ناجحة في خفض مغريات المناصب السياسية في ولاية الشرق؛ الوزراء مثل كبار الموظفين لا فرق بينهم، نزع منهم السيارات ذات الدفع الرباعي وترك لهم سيارات عادية لا تميزهم عن غيرهم.
-6-
أقترح على إدارة التعليم قبل المدرسي سحب نشيد ركيك يُدَرَّس في رياض الأطفال آخر شطر فيه يردد الطفل:
(أدخل الجامعة أبقى وزير أَرَيِّح ماما وبابا في السرير)!